أميرة للشعر.. رسولة لصوفية الروح … ليندا إبراهيم: صلوات في حضرة الحب والرسولة

أميرة للشعر.. رسولة لصوفية الروح … ليندا إبراهيم: صلوات في حضرة الحب والرسولة

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ٢٩ مارس ٢٠١٦

 إسماعيل مروة
تتوقف ليندا إبراهيم الشاعرة والإنسانة عند محطات من حياتها، وتبوح بأنها إن ندمت على شيء، فإنها تندم لأنها درست الهندسة ولم تدرس الأدب، وهي لا يعنيها أن يحمل أحدهم لقباً مزيفاً، أو أن يتكنى بدرجة علمية لم يحصل عليها، فهي التي لم تخطط لمسيرتها درست الهندسة وبرعت، ولكن موهبة الشعر طغت عليها، وعشق الثقافة تغلغل فيها، فصارت أميرة للشعر، لم تكترث للسائد، ولم تشأ، وهي على دراية، أن تجامل الذوق العام، لتكون صاحبة المكانة الأرفع، بل أرادت حتى في المغامرة أن تكون الشاعرة التي تعيد بناء قصيدتها وهندستها كما يروق لها، وكما ترى الشعر في وجدانها ورسالتها الشعرية والأدبية، فاكتسبت من هندستها التأني، ومن شعرها ذوب الإحساس الذي وجدته لرسولتها ببديل موفق (حتى القوارير) مستعيضة به عن تعبيرنا الشائع (حتى الثمالة)، وها هي ليندا إبراهيم بعد تتويج الإمارة أصدرت لدمشق هذا الياسمين، فصول الحب والوحشة، واليوم تعتمد رسولتها لتقدم بين يديها لحضرة الرسولة، وهذه الاستمرارية في إصدار ثلاث مجموعات تعطينا فكرة أن الشاعرة ليست شاعرة منابر، وليست شاعرة مسابقات يتوقف شعرها بتوقف الحافز، بل هي شاعرة تفيض شاعرية، وهي شاعرة متأنية لا تكترث بأن تكون على كل قلم ومطبعة.
صلاة وبياض

لا تمزجه بسواه، إنه الشعر المقدس الذي نهلته من أم رحلت وتركت حبل الفقد في روح شاعرتها، أهدتها الشعر ورحلت تاركة تألق الفراق وتمزق القوافي على حدود الاشتياق، وإكراماً لقداسة الشعر فإن الشاعرة تغمس روحها فيه حتى القوارير باحثة عن متعة الصِّرف في الأشياء، وإن كان صرف الشعر أشهى بلا لون يشبه الألوان، وبنكهة جارحة ممتعة تتسلل في روحها، وهي تخاطب طيف أم رحلت، وما رحلت، فقد سكنت قارورة شعر تستعين الشاعرة بـ(حتى) لتصل إلى عمق النشوة من دون أن تكسر نقاء شعرها الموصوف، وإن كان على كل مشهد، إلا أنها تعطيه خصوصية المشهدية:
صوتك القدسي أحسبه كصوتي
طالع من ألف عام
سوف أدّخر الوصايا العشر يا أمي
وأومئ للغمام
أن ترفّق بالندى.. بقصائد الوجد القديمة
حين يختبئ اليمام

اللوحة والمشهدية
أدركت الشاعرة بفطرتها وشاعريتها النابعة من روحها لا من دراستها، أن الشعر صورة ولوحة ليهز عند سماعه، ولو درسته كما أرادت لضاعت في تفاصيل حرفية الدارس الأدبي، لكنها بعشق الحرف والصورة، صارت العاشقة الموهبة التي تحترف صورة الشعر، فتدخلك في تفاصيل التفاصيل من دون أن تدعوك إلى قراءتها، فهي على يقين أن الشعر الصِّرف يأتي بك على صهوة خيل.
كان يكفي
أن تشي القصائد بأيلول وجهك
بصهيل خيول الرغبة
بغبطة القرنفل
كان يكفي!
و
كان يكفي
أن تشي لغتك بهمس روحك
حنانك المستتر
شوقك المؤجل
كان يكفي أن تهبني عطر كل الآلهة
حتى أغدو الرسولة
بعطرها الشذي حتى القوارير

العرفان والمعرفة
بتكثيف شعري تتعرف الشاعرة ذاتها، وتصل لذة التصوف والمعرفة، إذ تدلف إلى الحقيقة عندما تدخل إلى ذاتها، فمن تريده وما تريده سرّ، وهذا السرّ أدركت كنهه ببراعة:
قلت:
دلني إليك… فقد أضعتك
وهذا الليل موحش يا حبيبي
قال: أنذا في روحك… اسمعي وقع خطاي
أنا سرك الأزلي.. وأنت السرّ لسرّي
وانثنيت لا ألوي على شيء سوى سرّه
في روحي!!
لذة معرفة السر في الروح تمتد إلى معرفته في الذات، ولا يبعد هذا النص عن صوفيات رابعة وابن الفارض، وإن كانت الجملة أكثر وضوحاً، وأقرب إلى روح الشاعرة، وروح التصوف، فكم من مرة أضعناه ونحن في بحثنا الدؤوب، ولكن الحوار بين السرّ وحامله ومحمله غاية في الوضوح، وهو يدعونا دوماً إلى أن نكون هو، وإلى أن يكوننا، ومن ذواتنا يخرج النور، وفي ذواتنا نحتفظ بالسرّ، وإلا فلماذا قالت الشاعرة شعرها (لحضرة الرسولة) والحضرة فيها من معاني التصوف ما فيها، ورسولة العشق أو شهيدة العشق، وخضرة صاحب الحضرة في الخط والعنوان والرسم، وارتقاء الفرس نحو المطلق حاملاً رسولته.
ولذا تقرأ ما في غيابة الجبّ ولا تقرأ، تستشف ما في القصة لتسقطها على سرّها وسيرتها، وما بين جُبّ وإله وحضور وغياب تبحث عن سر التصوف (الحب)، لكنه سر حقيقي روحاً وجسداً، صلاة وشهوة، وصولاً إلى قرارة الحب:
وبرارٍ
وحشية
شغف ما قبل الخلق
ثعالب رغبة رغبة… غَيابة شهوة
قمر جُبّ.. وجه إله!
كان يكفي غيابه ليحضر
كان يكفي حضوره السري.. ليكتمل قمر الغبطة
ويتم سرمد الزمان
أيها الحب.. اجعلني عناقيد شهوة تدلّى على
رصيف فتنته
أيها الحب.. اجعلني نواقيس الصلاة في معبد
روحه
أيها الحب… أيها الحب… أيها الحب!!
الرصيف رصيفه، والمعبد معبده، والناقوس للمعبد والعبادة، ولكن في معبد الحب والعبودية، وهل أعلى من عبودية العشق ليرتشف العاشق عشقه على رصيف فتنته، وفي حضوره السري الذي لا يدركه سواه؟!
وليسوع ومجدليته

ولا تكتمل دورة الصوفي في عشقه، إلا لتغمر تنورته البيضاء الكون، ويرقص رقصة الصوفية المصوغة من إسماعيل ودم الذبيح الذي منح روحه للطاعة، إلى موسى الأجير للحب، إلى يسوع ماسح وجه المجدلية، وهنا تتبادل الشاعرة الصفات مع مجدلية يسوع:
للمجدلية وقتها عند اشتعال السرّ في الألم
المقدس واحتدام أنينها
أما أنا لي وجهك الأزلي يا قمراً بليل الناصرة
أنا نجمة الشرق العليّة في أقاصي الروح
ونبوءة العرّاف من مدن الزمان الغابرة
يا سيد البسطاء.. والودعاء.. والفقراء
أنا نكهة الحب الإلهي الجليل السّاحرة
بكى
الزمان… على آثار من عشقوا
تولهوا أبداً بالحب.. وافترقوا…
وصارت الريح من كتّاب سيرتهم
والروح تدّخر الذكرى وتحترق
كنت أود استقصاء استعمالات الشاعرة لمفردة الروح، فعزفت عن ذلك لأنني لم أجدها خارج الروح لفظاً أو فعلاً، احترقت جسداً، وبقيت روحاً تناجي صلاتها وناقوسها وأجراسها، لتكون هي الرسولة التي آمنت بدورها وبأنها الرسولة.
أكثر ما أسعدني وأنا أقرأ هذه المجموعة تجانسها من أول روح إلى آخر روح، وعمق مدلولاتها القرائية والصوفية، إذ ابتعدت الشاعرة بعيداً عن الشعر لغاية الشعر، وقاربت الشعر الروح والغذاء على اختلاف نوازع القارئ.
ليندا إبراهيم أميرة للشعر كانت، ورسولة للشعر صارت، وحاملة ثوب تصوفها، تنتقل روحها من قصيدة إلى أخرى، ومن قارئ إلى آخر، غير آبهة بجواز انتقالها هذا.