رتبة الفلسفة في الشعر العربي لا تُنال إلا بالمعاناة

رتبة الفلسفة في الشعر العربي لا تُنال إلا بالمعاناة

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ٢ يوليو ٢٠١٩

من الأحداث ما يزلزل النفس ويدفع بالمرء إلى أن يتحول إلى فيلسوف، فاليوناني (سقراط) كان مجرد مثقف قبل أقرانه بزوجته، ولكنه تحول –كما يقول رواة سيرته- إلى فيلسوف بسبب (عقل) هذه الزوجة، ورواة سيرة الخليفة الأموي مروان بن عبد الملك يقولون: إن هذا الخليفة ذكر يوماً أن الشيب غزا رأسه لكثرة اللحن وصعود المنابر.
 
ويبدو أن المطرب محمد عبد الوهاب، تحوّل في أواخر حياته إلى فيلسوف بفضل الراقصات والمغنيات، ولسبب آخر هو انهيار في الغناء العربي الذي كان عبد الوهاب عمده ورمزه في القرن الماضي، فعندما سأله أحد الصحفيين قبيل وفاته في رأيه بحاضر الغناء العربي كان جوابه الذي ينضح فلسفة، «في هذا الزمان الفني الرديء، تغني الراقصات، وترقص المغنيات»، وأنهى الجواب بالقول: «إن فن الغناء العربي كالعملة، كانت في السابق ذهباً، وصارت في الحاضر ورقاً»، ومع أن عبد الوهاب كان معتبراً باستمرار رأس المجددين بين الفنانين، فقد ضاق ذرعاً بالمجددين اللاحقين الذين لم يكونوا على دراية بأصول التجديد، فالتجديد، كما كان يقول له أصوله وشروطه ومقاديره ونسبه التي أختلت، لم يكن المرء أمام تجديد، بل أمام بدع وهرطقات، أو على الأقل أمام تجديد منقوص، ففي رؤيته النقدية للموسيقيين من الأجيال التي تلته، ذكر ذلك أنه يحس في موسيقا (كمال الطويل) من خلال ألحانه بأنه يحاول أن يفعل شيئاً، ولكنه لم يصل إليه بعد، وأنه قد عانى في ذلك (أنه عمل فني متكامل شديد الجمال والانسجام، ولكني لا ألمح فيه ومضات باهرة)، أما موسيقا بليغ حمدي فقد وصفها بأنها (ومضات من الماس مركبة على تركيبات من الصفيح)، أحس في ألحانه أنه عثر على جملة جميلة تدخل في وجدان الناس لما فيها من جمال ومن شخصية، ولكنه أحاطها بأي كلام ليكون انتهى من عمل يحسب له، ولاشكّ في أن ملاحظاته على الملحنين، كما الطويل وبليغ حمدي ملاحظات ذكية صادرة عن أستاذ كبير، ولكن ملاحظاته عن المغنيات والراقصات ومن حاضر الغناء في زمانه الأخير، قد نقله من أستاذ إلى فيلسوف، فبهذه الملاحظات وحدها وصل الفنان محمد عبد الوهاب إلى رتبة الفلسفة.
إن تحوّل المرء إلى فيلسوف، على النحو الذي تحوّل فيه سقراط وعبد الوهاب، مسألة جديرة بالدراسة والتأمل، هناك لحظة تنال فيها النفس رتبة جديدة لم تكن فيها في السابق، فما سر هذه الرتبة، وكيف يؤول إليها المرء؟
أولاً: يجب الإشارة إلى توفر خامة مرهفة وشفافة في الذات تلتقط أدق الذبذبات من حولها، ثم تحويلها إلى مختبر داخلي للتحليل والتفحص، ولكن هذا المختبر ليس من الكفاءة حيث يفسر كل شيء، ويأتي (بما لم يستطعه الأوائل) فقد يعجز ويصاب بالحيرة، فإذا هاجمه العجز وأطبق عليه، تحوّل صاحبه في البداية إلى ناقد أو مفكر، فإذا ناء هذا الناقد أو المفكر بالحمل الثقيل الذي ألقاه عليه مختبره تحوّل إلى فيلسوف، أو إلى طارح أسئلة لا أجوبة لها، أو إلى ناطق بكلمات حكيمة تسربت إليه من نفس مشبعة بالمرارة والضيق.
وتجب الإشارة ثانياً إلى طول المعاناة والخبرة والتجربة، فلا يمكن للمرء أن يتحوّل إلى فيلسوف إذا رأى ثم مشى، عليه أن يرى ملياً وأن يحدّق طويلاً في البلوى التي ابتلي بها، وأن يطيل النظر فيها أو إليها على غرار ما كان يفعله (المعري) وهو في الثلاثة من سجونه، ومع رتبة الفلسفة فقد قلّت كثيراً في زمننا نظراً للضريبة الباهظة التي تتطلبها، فإنها لم تتقدم كلياً، فها هو (بدر شاكر السياب) على سبيل المثال يصل إلى مشارفها رغم صعوبة المرض الخطير الذي كان يعاني منه معاناة شديدة، فقد احترق قلبه في أواخر حياته، لا على حالته الصحية وحدها، بل أيضاً على (صحة الشعر) التي كانت قد بدأت تتردى في ذلك الوقت، ويقول بعض من عرفه في تلك الفترة المرة من حياته، إنه كان يقول لهم «إنه هو ورفاقه في دار المعلمين العليا في بغداد، من أجل أن يصبحوا شعراء، كانوا يقرؤون في الشهر الواحد ما لا يُحصى من الكتب العربية والأجنبية، وإنهم استظهروا آلاف الأبيات القديمة وغير القديمة قبل أن ينشروا في الصحف»، على أن بدر شاكر السياب إذا كان قد اكتفى بالتأمل والتفكير والحزن على حالة الشعر العربي؛ فإن الشاعر (خليل حاوي) تعدى حالة التأمل هذه فوصل إلى رتبة الفلسفة، بدليل أنه فقد عقله قبل أن ينتحر، فقبل انتحاره بسنوات، لم يكن له من حديث سوى حديث الشعر وما آل إليه على يد (الشعراء) الجدد، ولأنه بدأ حياته مجرد عامل في مهنة، حيث لم يكن يستطيع أن يحوز لقب (معلم) قبل مضي عشرين عاماً على الأقل، فقد كان يقارن بين هذه المهنة ذات التقاليد الرصينة، ومهنة الشعر التي تسيبت في زمانه كما يقول: «انظروا إلى هذا الغلام الذي تطلق عليه الصحافة لقب شاعر كبير وهو ليس من الشعر في شيء»، ولا يتردد الذين عرفوا بعد ذلك بواقعة انتحار (خليل حاوي) في القول إنه لاشكّ في أن من بين الأسباب التي أوصلته إلى الفلسفة ثم إلى الانتحار لاحقاً(فلتان الوضع الشعري) في زمانه، وهكذا يتبين أن رتبة الفلسفة لا تُنال إلا بالمعاناة وإن اختلفت تجلياتها، فقد يحتفظ فيها المرء بعقله إذ تستوي على هذه الحالة ونقيضها، وقد يفقد فيها المرء عقله عندما يفقد قدرته على التحمل.