جـنـيـف – 2 ،،، وقـرن صُـنـع فـي سـوريّـة

جـنـيـف – 2 ،،، وقـرن صُـنـع فـي سـوريّـة

مؤتمر جنيف 2

الأحد، ٢٦ يناير ٢٠١٤

إصطف المؤتمرون في القاعة ، الأنظار تتجه إلى المهندس لافروف الذي دَوزن ” الزوايا ” والسقوف والحجرات والممرات … وللوفد العربي السوري الذي ضاقت به وبطائرته أجواء أوروبا ، ولكنه وصل . هم يعلمون بأنه سيصل ، وأن لا مؤتمر بدونه ؛ إنما هي الحرب والضغوط النفسيّة ، وإدعاء الإهمال طمعاً بإستكمال حرب الأعوام الثلاثة على العقل والوعي والهويّة والدور . تكلّم لافروف ببرود المهندس الذي “ركّب ” المعادلات لهذا البناء ، وحِرص المُستفيد الذي إستخدم حق النقض لثلاث مرات ليردّ بعض الجميل السوري ، وثبات الحليف الذي تدخل ميدانيّاً في الحرب المُعلنة على سوريا في لحظة كانت ستصل فيها عتبة جديدة بإشتراك أمريكا المباشر والعلني فيها قبل بضعة أشهر . في 22 آذار عام 2013 قال الرئيس الأميركي باراك أوباما : “أنا واثق من أن الأسد سوف يسقط ، إنها مسألة وقت فقط” . وقبل ثلاثة أيام فقط قال دبلوماسي أمريكي في أحد ممرات الفندق الذي عُقد به مؤتمر جنيف 2 : “لقد أصبحنا عقلانيين بعد أن كنُّا نؤكد أن الأسد سيسقط خلال شهرين . موازين القوى العسكرية على الارض صارت لمصلحة النظام السوري ، ونحن لا نريد التدخل عسكرياً لأسباب كثيرة تعرفونها” . لنعد إلى جنيف – 2 ؛ من المعلوم أن الإجتماعات والمؤتمرات من النوع الذي عُقد في “مونترو” لا تُمثل قيمة كبرى بذاتها ، بل بما تؤشر إليه من تفاهمات وتوازنات تمّ إنجازها قبل الإنعقاد من جهة ، وما تُبشر به من وقائع وحقائق سيتم تظهيرها والإعلان عنها من جهة أخرى . سأتحدث بتركيز عن بعض ما تمّ إنجازه والإتفاق عليه ، وما قد يُنجز ويُتفق عليه .

* بعض مما تمّ إنجازه والتسليم به :

1- إنتصار سوريا أنهى حقبة الأحاديّة القطبيّة :

قال لافروف قبل أكثر من عام ” إن شكل العالم وصورته تتوقف على النحو الذي تنتهي به الأزمة السورية ” . لتوضيح الصورة أكثر ، سأقدم ما يمكن وصفه بالتعريف بالضد ، أي التعرف إلى الشيء بضده . ماذا لو كانت أمريكا اليوم مزهوة بإنتصارها على سوريا ، وبضمها لمنظومة دول ” الربيع العربي ” ، هل كانت ستأتي إلى جنيف ؟ وأي مشهد كنا سنرى ؟ الغرب يَسُنُّ سكينه ليقتسم كامل المنطقة على النحو الذي يشتهيه ، ودول العمالة والإرتزاق تتهيأ لتصفية عدة عناوين كبرى دفعة واحدة أرقتها وأرقت أسيادها ، كالقضية الفلسطينية والقومية العربية والإسلام المحمدي والمسيحية المشرقية ، وأي شكل للتنوع في المنطقة … وحالة هستيريّة من تشظي دول المنطقة مذهبيّاً وطائفيّاً ودينيّاً وعرقيّاً ، وإنفتاح “عربي” شامل على كيان العدو الصهيوني ، وخنق كل ثقافة مقاومة أو مغايرة حتى … تمهيداً للدخول في العصر الأمريكي الذي بَشّر به أوباما في جامعة القاهرة وفي تركيا ، ونظّر له برنارد لويس وهنري ليفي والقرضاوي وبشاره وآخرون . وكلّ ذلك كان ممكن فقط إذا سقطت سوريا . لقد أسقطت سوريا بصمودها وصبرها ونصرها هذا المنطق الإلحاقي الإستعماري الغربي ، وما يقابله من منطق تابع وتفريطي رجعي عربي . لم تكتف سوريا بإسقاط هذا المنطق التفريطي والعميل ؛ بل هي اليوم تُسقط منظومة كاملة من موازين القوى والعلاقات الدوليّة المُختلة ، والتي بقيت سائدة خلال ربع قرن مضى على الأقل . منظومة سمحت لأمريكا بالتفرد بقيادة العالم ، فأستباحت سيادة دول ، وغزة أخرى ، وأحتلت ثالثة ، كاليمن وباكستان العراق وأفغانستان والصومال ومصر والسودان وليبيا … وأنتهكت حقوق الإنسان في طول العالم وعرضه ، وإقامت السجون العلنية والسريّة بل والطائرة ، ونفذت ” مجازر ” بحق الإنسانية جمعاء كما جرى في سجن أبو غريب ومعتقل غوانتانامو ، وسجون حلفائها وتوابعها حول العالم .

2- “الربيع العربي” … إلى الخلف دُر :

إن سوريا بصبرها وصمودها وألغاز نصرها ساعدت العالم أجمع على أن يحلم بغدِِ لا وجود فيه لحكام يأتون عبر البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية ، وأوقفت زحف الغزو الأمريكي غير المباشر المسمى “الربيع العربي” ، وفتحت أبواباً واسعة لتغييرات إجتماعيّة وإقتصاديّة وسياسيّة كبرى ستغير وجه المنطقة عاجلاً لا آجلاً . إنّ صمود سوريا ونصرها هدف تفوق قيمته وحيويته للعالم أي مصلحة أو هدف آخر . لذلك رأينا روسيا مثلاً تستخدم حق النقض ثلاث مرات لدعم صمود سوريا ونزع أي غطاء شرعي لغزوها ، وفتحت لها مخازن إسلحة غاية في القدرة والدقة والتفوق لأجل تعميق هذا النصر وتثبيته والمساهمة فيه . ورأينا إيران تقدم خطوط إئتمانيّة بمليارات الدولارات لتغطيّة الإحتياجات الأساسيّة السوريّة ، وتبادل السلع والبضائع . وهاتان الدولتان – روسيا وإيران – عانتا بعمق من السياسات الأمريكيّة وذيولها لإركاعهما وتمزيقهما قبل أن تشنّ عدونها غير المباشر الأخير على سوريا بسنوات ، وهما تقدمان لسوريا كلّ ذلك لأن ما قدمته سوريا هو الأغلى والأثمن ، بل هو ما لا يقدر بثمن .

3- تَصدّع الأدوات وتداعيها :

الإشتباك السياسي والميداني القاسي والمصيري مع سوريا وحلفائها كان له نتائجه الكارثيّة ، ومنها ، إستنزاف قوى وأنظمة ومؤسسات وأفراد … تابعة لأمريكا . وهذا الإستنزاف حمل نتائج كارثية على أصحاب مشروع الحرب على سوريا أنظمة ” مثل آل سعود وآل ثاني وأردوغان ومرسي ” ومؤسسات إقليميّة “مثل جامعة الدول العربية الفاعلة في سوريا والخرساء في فلسطين” ، ومؤسسات إعلامية “كقناة الجزيرة التي إنخفضت نسبة متابعيها بمقدار 84 % عما كانت عليه قبل الحرب على سوريا” وأفراد “مثل القرضاوي وعزمي بشاره الذي ما عاد يذكر وطنه فلم يعد يذكره أحد” . ومن آثار هذا الإشتباك العصف بأنظمة “الربيع العربي” ؛ تلك الأنظمة التي عملت أميركا والغرب جاهدين لإرساء دعائمها بدل الأنظمة الراحلة . وأول الساقطون كان نظام العدالة والتنمية في مصر ، ونلحظ تداعي النسخ الأخرى في قطار “الربيع العربي” بكل يسر .

4- إنزياحات في القوة الإقليمية :

كلنا يعرف أن في هذه المنطقة كيان تمتع برعاية “فائقة” طوال عقود مضت ومنذ أن نشأ كسرطان يفتك بجسد هذه الأمة ، ويُنهك قواها ، ويقتات على روحها ، ويتحالف مع أنظمتها العميلة والمهترئة لتطويع شعبها وترويضه . كلنا يتفق على أن الكيان الصهيوني هو كيان صنيع وهجين في هذه المنطقة ، وأن له دورا وظيفيّاً يستمد منه قوته و”شرعيته” . وقد كان مفيداً جداً طوال عقود لخالقيه “بريطانيا وفرنسا” ، ولمن ورث خالقيه ” والمقصود هنا أمريكا تحديداً ” ، وأثبت قدرة هائلة على تنفيذ – أو المساعدة في – تنفيذ السياسات الغربية على إختلافها سياسية كانت أو أمنية أو عسكرية أو إقتصادية … ، وكانت عصاه الغليظة قادرة على الضرب إينما أرادت ووقتما أرادت وبمقدار ما تريد . ضربت في مصر وسوريا والعراق وتونس وليبيا والسودان … فكانت القوة الإقليميّة الأكبر ، والجغرافيا الأكثر أمناً . واليوم يعاني هذا الكيان بذاته مشاكل عميقة جداً تتعلق بمعادلة الدور والوظيفة – أي أن يضرب إينما أراد ووقتما يريد وبمقدار ما يريد – قد يقول أحدهم ولكنها قصفت في سوريا وغزة ، فأرد : صحيح ، وإن في هذه الضربات إنتهاك للسيادة والكرامة الوطنيّة ، ولكن ، هل أُنشأ هذا الكيان ليوجه الضربات الجويّة ؟ هل هو قادر اليوم على شنّ أي عدوان واسع على لبنان أو سوريا أو غزة ؟ سأذكر هنا بما قالته هيلاري كلنتون في 22/3/2010 وأمام ” الأيباك” في مؤتمره السنوي : “إن إستمرار النزاع والواقع الحالي لا يخدم مصالح الولايات المتحدة ، ولا يمكن أن يبقى مستداماً لجميع الأطراف ، خصوصاً في ظل ديناميكيات الديموغرافيا والإيديولوجيا والتكنولوجيا ، بل يعد بمزيد من العنف ويهدد إسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية ” . كما يعاني ذات الكيان من مشاكل تعصف في حضنه “الأخير” أمريكا التي يتداعى إقتصادها ، وتتآكل قدراتها العسكريّة ، ويتراجع “مجالها الحيوي” أمام خصومها الذين يزدادون كلّ يوماً قوة في حين تزداد هي ضعفاً . لذلك ، نلاحظ “اليوم” إرهاصات إنزياح إستراتيجي في مركز القوة الإقليمي من كيان العدو الصهيوني إلى حلف المقاومة .

5- الجيش العربي السوري يُسقط جنيف – 1 :

في ذكرى الهزيمة العربيّة أمام كيان العدو الصهيوني والرجعيّة العربيّة في 5 حزيران 1967 ، تُعلن القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة العربيّة السورية في 5 حزيران 2013 تطهير كامل مدينة القصير ، وهزيمة أدوات كيان العدو والرجعيّة العربيّة العميلة فيها . ثمّ ما لبث هذا الجيش العظيم إلا وتقدم نحو حمص وحلب وريف دمشق … فتعالت الصيحات المحذرة من تداعي المشروع وإنهيار أدواته الإرهابيّة . ألم يقل وزير الخارجية الاميركي جون كيري إن ” أميركا وبريطانيا تركزان على عمل كل ما يمكنهما لدعم المعارضة السورية في تغيير التوازن على الأرض ” ؟ ألم يصرخ بأعلى صوته وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في 12 (حزيران) 2013 عندما قال : “يجب تحقيق إعادة توازن بين القوات السورية والمسلحين ، لأنه في الأسابيع الأخيرة حققت قوات الرئيس بشار الأسد ، وخصوصاً بدعم ” حزب الله والإيرانيين ” تقدماً هائلاً بواسطة الأسلحة الروسية . وأضاف : في حال لم تحصل إعادة التوازن هذه على الأرض لن يكون هناك مؤتمر سلام في جنيف ، لأن المعارضة لن توافق على الحضور ، في حين ينبغي تحقيق حل سياسي ؟ . ألم يتحدث فابيوس نفسه عن إستحالة الجلوس على طاولة المفاوضات بين طرف قوي جداً وآخر ضعيف جداً لأن نتائج التفاوض ستكون محسومة سلفاً” . عبرت مقررات جنيف 1 عن وضع ميداني وسياسي وأمني وشعبي وإعلامي … إختل بشده منذ الإعلان عنها في 30/6/2013 حتى اليوم ؛ فتم تطهير المزيد من الأراض في دمشق وحلب وحمص ودير الزور وإدلب ودرعا … وتراجعت الحاضنة الشعبيّة للمسلحين إلى حدّ كبير ، وتعرت “المعارضة” وبان جوهرها وإرتباطاتها ، وظهرت أهداف من يمولها ويدعمها ويُنظّر لها ، وأستعرت المعارك بين فصائل هذه “المعارضة” على نحو غير مسبوق ، وطغى العنصر الأجنبي فيها على تشكيلاتها وقياداتها . أي لم يعد جنيف 1 ممكن القبول بكليته أو القبول بالتفسير الأمريكي لبعض البنود “المبهمة” فيه مثل بند “حكومة أو هيئة إنتقالية كاملة الصلاحيات” ، ومع كلّ ذلك جاؤا مرغمين لأن إحتمالات الخلل بتزايد مستمر لصالح الدولة السورية .

* ما قد ينجز ويتفق عليه :

1- تبدلات دراماتيكيّة في وجه المشرق :

قبل عام تقريبا قال السيناتور الأمريكي النافذ والصهيوني المتطرف جون ماكين بأن : “الشرق الاوسط قد ينهار اذا لم تلتزمه واشنطن مع حلفائها” . نحن اليوم نرى تعافي العراق فأين سيتموضع سياسيّاً بشكل نهائي ؟ وما هي آثار هذا التموضع ؟ هل يمكن لممالك الخليج العربي الإستمرار حيّة بوجود جبهة تضم بغداد ودمشق وبيروت ، ومتحالفة عضويّاً مع طهران وموسكو وبكين ؟ هل يمكن للأردن أن يبقى “حيّاً” إذا قرر البقاء خارج هذه الجبهة ؟ وهل يمكن للكيان الصهيوني البقاء مع وجود هذه الجبهة ؟ ماذا لو قررت مصر أن تلتحق بهذه الجبهة التي غيرت وجه المنطقة وتوازنات العالم ؟ عندما يجلس السياسيون على طاولة التفاوض ، يجلس خلفهم الخبراء العسكريون ، وفي حقائبهم يحملون خرائطهم ومعلوماتهم الميدانيّة ، وتقديراتهم لموازين القوى … ليتم ترجمة كلّ هذه العناصر في بنود سياسية . من كلّ بند تفوح رائحة البارود ، وعطر النصر أو ريح الهزيمة ، وترتسم في كلّ بند أثار أقدام الجنود ، والمتاريس التي يتحصنون خلفها ، ومديات بنادقهم ومدافعهم وصواريخهم . من يعتقد بأن جنيف 2 عُقد كرمى لعيون الجربا ومالح وسيدا وطيفور وكيلو عليه أن يغير وجهة نظرة بالكامل ، إن مِدحَلَة بهذا الحجم لن تتحرك لأجل سحق بضعة صراصير ! .

2- القائد الحقيقي وجهاً لوجه مع العدو الحقيقي :

” منذ بداية الأزمة ، وأنتم تعلمون جيداً أننا ننتظر اللحظة التي يُطلّ بها عدونا الحقيقي برأسه متدخلاً . وأعرف أن معنوياتكم مرتفعة ، وجاهزيتكم كاملة لاحتواء أي عدوان والحفاظ على الوطن . ولكن أطالبكم بأن تنقلوا هذه المعنويات إلى مرؤوسيكم والمواطنين السوريين . فهذه مواجهة تاريخية سنخرج منها منتصرين ” بهذه العبارات كثّف سيادة الرئيس بشار حافظ الأسد المشهد ، ها قد جاء العدو الحقيقي الذي إحتفى طوال الأشهر الماضية خلف ألآف الوجوه ومئات ألآف القتلة والمجرمين والإرهابيين ، ها هو قد دخل المسرح بذاته لا بأدواته ونحن له النّد والخصم . هي لحظتنا التاريخية لكي نقاتل عدونا الحقيقي ، ونقطع اليد التي طالما حملت السكين ووجهتها إلى صدورنا . معنوياتنا تعانق السحب ، وإمكانياتنا الإستراتيجية سنُدخلها جميعاً في معركة القرن ، والنتيجة الوحيدة التي ترضى بها سوريا هي نصر تاريخي سيغير وجه المنطقة والعالم حتماً ومنها يولد زعيم المنطقة ليومها وغدها . من يشك بذلك فلينتظر حتى ينقشع غبار جنيف 2 . من هنا نفهم توجه “المعلم” بكلماته القاسية والمشهورة لكيري في مونترو “سيد كيري …” .

3- سوريا الدولة – المركز في الإقليم :

بعض الأمور لا يمكن تكرارها مرتين لأن الخطأ فيها قاتل لا محالة ، كأن تنزع مسمار الأمان عن قنبلة يدوية لترى طبيعة إنفجارها وأثرها على جسدك . لكنك تستطيع أن تكلف “عبداً” لديك للقيام بتلك التجربة – مع منحه بعض أدوات السلامة وإحتياطات الأمان والإغراءات المادية – فترى آثارها ، وقد تحقق أهدافك دون أن تتضرر شخصيّاً على الأقل . وهذا بالضبط ما حصل مع سوريا . أمريكا أرادت تحقيق أهدافها في المنطقة عبر عدة أطراف – الخونة والمرتزقة ومال الخليج وفتاويه التحريضيّة … – ولكنها عجزت عن تحقيقها ، فقامت بتكليف الكيان الصهيوني بمساندتهم ، لأن الخطأ الذي يرتكبه كيان العدو قد يتم إصلاحه ، وفشل . فأضطر الأمريكي للتدخل مباشرة ؛ فحشد وصعّد ، وهدد … ثم تراجع ، لأن الخطأ الأمريكي يعني حرباً إقليمية – على الأقل – حرب أمريكا وجنودها وقواعدها ومصالحها وحلفائها … أهداف حتمية فيها . كلّ هذا يجعل من سوريا الدولة – المركز على نحو حتمي في غد المشرق . ألم يقل يوماً جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي في عهد الرئيس “دوايت أيزنهاور” : ” إنّ سوريا موقع حاكم في الشرق الأدنى . إنها أكبر حاملة طائرات ثابتة على الأرض في هذا الموقع الذي هو نقطة التوازن تماماً في الإستراتيجية العالمية ، وهذا موقع لا يجازف به أحد ، ولا يلعب فيه طرف”.

4- تبدلات في توزيع الثروة :

منذ عقود وجزيرة العرب تحتكر إنتاج النفط والغاز – الثروة – في المشرق العربي ما أتاح لها لعب أدوار وممارسة سياسات تفوق حجمها بكثير ، فخربت الوعي ، وحاربت حركات التحرر الوطني ، ونشرت ثقافة الإستهلاك والتدين المتطرف والإرهابي ، ومولت الأنظمة العميلة وأعانتها على قمع تطلعات شعبها ، وخدمت مصالح الغرب أقصى ما أمكنها ذلك ، وغيبت شعبنا العربي في جزيرة العرب في تيه “التفرد الخليجي” ، وحبسته في قالب متخلف بدائي غرائزي بالحديد والنار مرة ، وبالعطايا والهبات مرة أخرى . لكننا اليوم أمام تبدلات كبرى في الثروة خصوصا بعد العثور على حقول غاز ونفط واعدة جداً في سوريا ولبنان و مصر … ما سيمنحها هوامش أكبر في خطط التنمية والتطور والتحديث … وسيكون لهذه الثروات تداعيات كبرى على هذه البلدان من حيث تعميق “إستقلالها” وهويتها وحرية حركتها وطرح مشروعها . خصوصاً إذا إسترجعنا الموقع المميز جداً للجغرافيا السورية وأهميته المتمثلة بإمتلاك مفاتيح المشرق ، وسيطرته على العصب الذي يصل المشرق بإوروبا ، وكلمته الفصل في تدفق الغاز والنفط من المشرق إلى شرايين مستهلكيه في أوروبا وأمريكا بأقرب الطرق وأيسرها ، من سواحل المتوسط إلى مستهلكية مباشرة .

* الخاتمة :

لقد أصبح يقيناً أن هناك عالماً جديداً يتشكل ، تُرسم معالمه على نحو متسارع جداً هذه الأيام . قبل أن يحدث أي زلزال يغير الجغرافيا ، ويبدل التضاريس ، وترتفع معه أودية وتنزل به قمم ، تكون هناك فترة ممتدة من الطيّ والتصدع ، ورحيل وإستقرار لصفائح صخرية ، تسير ببطء ، صحيح ، ولكنّ آثارها عميقة وضخمة . إنتهت الحرب العالمية الثانية – عملياً – مع إنزل الحلفاء في منطقة النورماندي بتاريخ 6 / 6 / 1944 ، ولكن كان على العالم الإنتظار حتى 11/2/1945 ليلتمّ شمل قادة العالم الجدد جوزيف ستالين وونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت ، ليقرروا شكل العالم ولونه ومناطق نفوذهم فيه . لم يحجز أحد من هؤلاء الكبار كرسيّه حول طاولة “يالطا” إلا بعد خوضه واحدة من أشرس المعارك في تاريخه . لم يجلس الإتحاد السوفيتي على مائدة الكبار إلا بعد معركة “ستالينغراد” ، كما لم تجلس بريطانيا على تلك المائدة إلا بعد معركة العلمين ، كذلك أمريكا ، لم تنظم إلى تلك القمّة التاريخية إلا بعد ضرباتها القاتلة لليابان وقيادتها للإنزال الأكبر في تاريخ البشرية – إنزال النورماندي – . جلس هؤلاء وكان كلّ العالم المتبقي مادة للتفاوض . واليوم ، من يشك بعزيمة سوريا على رسم وجه المنطقة والجلوس الطاولة من موقع المنتصر فليلحظ جسامة تضحياتها ، ويتذكر عزيمتها بالواقعة التي ذكرتها صحيفة “ميرور نيوز” البريطانية قبل أشهر بأن مقاتلات تابعة لسلاح الجو البريطاني ، إعترضت طائرتين سوريتين من طراز (سوخوي 24) بالقرب من القاعدة الرئيسية للمملكة المتحدة في قبرص . وأضاف الخبر الذي أكدته الصحيفة الصهيونية “يدعوت أحرنوت” نقلاً عن لسان الناطق العسكري البريطاني : “الكل على حافة الهاوية” . إنّه تحدّ واضح للملكة المتحدة بإختراق أجواء المتوسط وجزيرة قبرص التي فيها أكبر قاعدة تجسس بريطانية ، وللبوارج والسفن الأمريكية التي كانت راسية في عرض المتوسط حينها ، إنّه تحد المنتصر وإصراره