اتفاق سوتشي وأزمة العام 2019.. بقلم: أنس وهيب الكردي

اتفاق سوتشي وأزمة العام 2019.. بقلم: أنس وهيب الكردي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٤ سبتمبر ٢٠١٨

سيمضي المزيد من الوقت قبل أن يتبلور الاتفاق الروسي التركي واقعاً على الأرض، ربما شهر، ثلاثة أشهر، أو أكثر، في هذا الوقت تتجمع بوادر أزمة كبرى قد يكون عام 2019 المقبل مسرحاً، وذلك بالتوازي مع تقلص خيارات الأطراف الدولية والإقليمية حيالها.
مكن اتفاق سوتشي الذي توصل إليه الزعيمين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، ثلاثي عملية أستانا: روسيا، تركيا، إيران، من تنفس الصعداء، بعد وصول مسارهم إلى مفترق طرق إبان قمة طهران. لم تكن إيران متحمسة بشدة للقتال من أجل إدلب «عش الدبابير»، على العكس من ذلك، لطالما اعتقد المسؤولون الإيرانيون أن الأولوية هي لمحاصرة الوجود الأميركي في الشرق السوري، تمهيداً للتخلص منه، بما يساهم في تمتين الرابط الجغرافي ما بين طهران ودمشق عبر الصحراء السورية والعراقية.
منذ أواخر العام الماضي، أعلن الروس عزمهم القضاء على «جبهة النصرة» خلال عام 2018، وبالتالي توفير الدعم للجيش السوري لتنفيذ خطته الرامية إلى فرض سيطرته على أغلب مناطق غرب سورية، قبل أن تتحول الإستراتيجية الروسية إلى الضغط على الوجود الأميركي شرقي البلاد في العام المقبل. مع تصاعد الحملة الأوروبية والأميركية المحرضة ضد عملية إدلب، قرر الروس قبول العرض التركي للتعاون في إدلب، وفي ذهنهم تعزيز قبضتهم على الأتراك، ووضعهم تحت الاختبار، وتكبيلهم بمهمة مستحيلة، وتهدئة إدلب قبل التحول إلى الشرق. بدورهم، سعى الأتراك إلى منع أي هجوم على المجموعات المتطرفة والمسلحة في إدلب، لاعتبارات كثيرة، أهمها الاحتفاظ بالمجموعات المسلحة ورقة بيد الأتراك على طاولة التسوية النهائية للأزمة السورية، وبالمتطرفين ورقة للضغط على ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية وداعميهم الأوروبيين والأميركيين. وفي سبيل تحقيق أهدافها، لم تتردد أنقرة في اللعب بالورقتين الإسرائيلية والأميركية على طاولة سوتشي.
في واشنطن، اعتقدوا أنهم أمام جملة من الفرص بسبب العملية التي كان الجيش السوري وحلفاؤه يعتزمون تنفيذها في إدلب؛ فمجرد إطلاق هذه العملية وسط معارضة تركيا، كان كفيلاً بأن ينسف مسار أستانا، ويدق إسفيناً ما بين أنقرة وشريكتيها: موسكو وإيران، بما يجبر أردوغان على العودة إلى أعتاب البيت الأبيض. وكانت هذه العودة لتكون سريعة لو تعرض المسلحون والمتطرفون إلى هزيمة سريعة، أما فيما لو استطالت المعركة وتحولت إلى حرب استنزاف، لصب ذلك في مصلحة الولايات المتحدة، لأنها ستطلق اليد الأميركية لتعزيز نفوذها ووجودها شرقي سورية، في غياب إيران وروسيا، وستجعل تركيا بأمس الحاجة إلى المزيد من الدعم الأميركي. عندها تساوم واشنطن أردوغان على إلغاء الصفقة التي عقدها مع نظيره الروسي لشراء منظومتي دفاع جوية روسية من طراز «إس 400»، والعودة للانخراط أكثر ضمن خطط حلف شمال الأطلسي «الناتو» في شرق أوروبا والبحر الأسود. مع ذلك، كان ليعكر صفو المسؤولين الأميركيين أن التالي بعد إدلب سيكون شرقي سورية، حيث تنتشر قوات أميركية من بين مهامها احتواء إيران في الشرق الأوسط.
على الرغم من تهدئة التوترات الروسية التركية بعد اتفاق سوتشي، إلا أن المسؤولين الأميركيين الجدد الذين تسلموا الملف السوري، مؤخراً، خرجوا باستنتاج مفاده أن إدارتهم لأزمة إدلب، أثمرت عن نتائج إيجابية حيال موقع بلادهم، إذ أحيت التواصل ما بين أنقرة وواشنطن حول سورية، ودفعت روسيا للتراجع عن إنجاز عملية إدلب وفقاً للسيناريو الذي كانت قد وضعته، حيث لا يخفى وجود تواطؤ أميركي تركي أوروبي، عضد موقف أردوغان خلال مفاوضاته مع بوتين. هذا التراجع الروسي سيستخدمه هؤلاء المسؤولون كسابقة على إمكانية «إقناع» موسكو باتباع نهج أكثر مرونة حيال مصير شرق سورية، وفي الوقت نفسه، يظهروا لزملائهم الأتراك فوائد استخدام الولايات المتحدة كاحتياط على طاولة التفاوض مع الروس.
هكذا، تمكن الروس من المحافظة على العملية التي نسجوا خيوطها في أستانا وسوتشي سارية، وهم الآن بصدد تكثيف الضغوط على الولايات المتحدة للخروج من شرق سورية. بمجرد حدوث ذلك، ستعود القضايا الرئيسية للأزمة السورية، والتي لم تحسم بعد، إلى الواجهة، في جو من احتدام المنافسة الروسية الأميركية، والأميركية الإيرانية على السيادة في الشرق الأوسط.
إلى الآن، فإن الاحتمال الأكثر رجحاناً، هو أن ترفع الولايات المتحدة مستوى التحدي عوضاً أن تقبل بالدعوة الروسية للخروج من شرق سورية، وهي ستتمسك بوجودها هناك مع تفعيل إستراتيجيتها حول سورية، والتي شملت في مراحلها الأولى، عرقلة مسار المفاوضات بين الحكومة السورية و«مجلس سورية الديمقراطية»، والضغط على عمليات نقل النفط السوري بين منابعه شرقي البلاد، ومصافيه ومراكز الاستهلاك الكبرى غربيها، وإحياء المجموعة المصغرة (تضم إلى جانب الولايات المتحدة كل من فرنسا، بريطانيا، السعودية والأردن) وإقناع مصر وألمانيا بالعودة إلى صفوفها، من أجل موازنة ثلاثي أستانا.
ستغدو إدارة ترامب أكثر شراسة حيال استمرار نفوذها شرقي الفرات، مع تزايد احتمالات خسارتها في المباراة الجارية لتشكيل الحكومة العراقية في بغداد، والتي يبدو أن طهران تحقق فيها نتائج طيبة إلى الآن. سيكون لخسارة كهذه، وقع سيئ على جملة المصالح الأميركية في المنطقة.
في المقابل، لا شك أن إيران لن تقف مكتوفة الأيدي أمام العقوبات التي تستعد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لفرضها على النفط الإيراني بحلول الرابع من شهر تشرين الثاني المقبل. وعلى الأغلب أن يشمل الرد الإيراني دعم مطالب حلفائها العراقيين المطالبين بخروج قوات التحالف الدولي من بلاد الرافدين، وتزخيم العمليات ضد الوجود الأجنبي في شرق سورية، حيث ينتشر ما لا يقل عن ألفي جندي أميركي وعشرات آلاف المقاتلين التابعين لتحالف «قوات سورية الديمقراطية» بقيادة «وحدات حماية الشعب» الكردية.
وفي كل الأحوال، تظل إسرائيل قابعة في خلفية المشهد لا تخفي استعداداتها وسعيها المتواصل لتوتير الأجواء في سورية ولبنان وربما العراق، متبعة نهج «الضربات الصغيرة ومتناهية الصغر»، التي تمنع بها تعديل ميزان القوى في المنطقة من دون أن تؤدي أعمالها إلى تصعيد غير محسوب ينتهي بحرب لا يريدها أحد. في كل الأحوال أدت الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، إلى توقيع دمشق وطهران اتفاقاً عسكرياً جديداً خلال الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي إلى عاصمة الأمويين، وهو ما أثار رد فعل إسرائيلي هيستيري، وجعل الإسرائيليين أكثر ميلاً إلى تعديل إستراتيجيتهم ولو أدى ذلك إلى الحرب.
ومنذ وصول ترامب إلى السلطة، شعر الروس أن الإسرائيليين أصبحوا أكثر انغماساً بالإستراتيجية الأميركية حيال سورية والدور الإيراني في المنطقة. بلغ الأمر ذروته مع تسرب أنباء عن استهداف طائرات إسرائيلية لمناطق في شرق سورية، ما يؤشر إلى وجود اتفاق أميركي إسرائيلي على أن تلعب تل أبيب دور الوكيل الأمني والعسكري لمصلحة إستراتيجية واشنطن القاضية بإخراج إيران من بلاد الشام. لذا، لم يمر المسؤولون الروس مرور الكرام على «المسؤولية الإسرائيلية» عن إسقاط الطائرة «إيليوشين 20» فوق اللاذقية الأسبوع الماضي، وهم يريدون ضبط الحكومة الإسرائيلية ضمن قيود الإستراتيجية الروسية خصوصاً مع اقتراب موعد المنازلة مع واشنطن بشأن شرق سورية.
هذا المزيج المتكون من قلق موسكو حيال تفلت الأتراك والإسرائيليين بعيداً عنها، وخوف واشنطن من فقدان تأثيرها على السياسة العراقية، مضافاً إليه تحفز طهران لمواجهة العقوبات الأميركية عبر المنطقة، وهيستيريا إسرائيل من تداعي خطتها لمواجهة إيران في سورية، سيشكل الملامح الدبلوماسية والعسكرية للعام 2019، وسيغذي احتمالات التصعيد الدولي والإقليمي.
الوطن