المقال السياسي والرأي العام .. بقلم: د. بسام الخالد

المقال السياسي والرأي العام .. بقلم: د. بسام الخالد

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٣ فبراير ٢٠١٩

Bassamk3@gmail.com
تنبع أهمية الكتابة السياسية من تطور الأحداث اليومية التي تتفاعل في الساحتين المحلية والدولية، ويرتبط المقال السياسي تاريخياً بالصحافة التي كان لها دور كبير في نهضته، ثم لاحقاً بوسائل الإعلام الأخرى كالإذاعة والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي بعد الثورة الرقمية، ولعل المقال السياسي هو السائد في زمن الحروب والصراعات والنزاعات السياسية ولا تخلو وسيلة إعلام من المقال السياسي في مضامينها.  
يعدّ الرأي العام هدفاً للكتّاب السياسيين بوصفه ظاهرة لا يمكن لأي نظام سياسي أن يتغاضى عنها مهما كان شكل هذا النظام وطبيعته، لذا ليس من الغرابة أن تكون عملية الاستحواذ على الرأي العام هدفاً لكاتب المقال السياسي، وقد أسهم المقال السياسي في التأثير على الاتجاهات والمواقف لدى المتلقي بشكل كبير في جميع القضايا التي تدور حوله، ما حقق، بشكل فعال، بلورة وتشكيل الرأي العام وتحديد اتجاهاته كافة، كون المقال السياسي يعرض مجموعة من الحقائق والمعلومات والأحداث حول مواضيع محددة ذات صلة وربطها بالموضوع المراد إيصاله للرأي العام، الأمر الذي يساعد في توفير المعلومات اللازمة لمعرفة وجهات النظر المختلفة حول القضايا العامة، وبالتالي تكوين الآراء والاتجاهات عند الأفراد والمجتمعات.
وإذا اعتبرنا الإعلام، في هذا العصر، هو الموجّه الرئيس لعقول الناس كونه يحيط بهم من كل الجهات وفي كل الأمكنة، فإن كاتب المقال السياسي المتمكن من أدواته يمكن أن يستقطب الرأي العام وقد يصبح أحد قادة الرأي مع مرور الزمن. 
المقال السياسي نتاج فكري يستمد مادته من الأحداث والظواهر والتطورات الراهنة، ويتميز بمعالجة الموضوعات بقدر كبير من الشمولية، مستخدماً أساليب العرض والتحليل والتقويم والاستنتاج بهدف تقديم فهم كامل ورؤية معرفية لهذه الأحداث وربطها فيما بينها وبمجمل التطورات المادية والفكرية التي تهمُّ المجتمع ليصل في النهاية إلى نتائج صحيحة إلى حد ما، فالكتابة في السياسة تكتنفها التعقيدات والمحاذير والمصاعب دائماً، وكاتب المقال السياسي كالمشتغل في السياسة، لا يستطيع التخلي عنها، حيث وجد الكاتب نفسه في هذا المجال بحكم تخصصه، ولا نستطيع أن ننكر أن الكاتب الصحفي السياسي يبغي من  خلال كتاباته تحقيق بُعد معنوي، فالكتابة تُشعره بمتعة نفسية كبيرة لا حدود لها، ناهيك عما يشعر به من سرور عندما تصدق تحليلاته واستنتاجاته أمام الرأي العام، وثمة عامل آخر هام هو أن كاتب المقال السياسي يشعر أن لديه رسالة سامية تجاه وطنه وأمته، ولا يمكن أن يدير ظهره لما يجري، كأن يكتب عن الرؤية السياسية لاقتصاد البرازيل، مثلاً، وبلده في حالة حرب!
وبنظرة تحليلية إلى الفوارق بين الكتاب السياسيين نجد أن المقال السياسي يختلف، من حيث المضمون، بحسب طبيعة موضوعه وشخصية كاتبه وثقافته، فالكتَّاب يتفاوتون من ناحية العمق والسطحية، فبينهم عميق الفكر الذي يمتلك ثقافة واسعة ومقدرة لغوية وتركيزا دقيقاً، ومنهم ضيق الأفق لا يستطيع إيصال أفكاره للمتلقي، وهذا يندرج على كتّاب المقال السياسي في الصحافة السياسية السورية والعربية بشكل عام، وإذا ما أخذنا خصائص المقال السياسي مقياساً بين الكتّاب، سواء في سورية أو غيرها من البلدان العربية، فمن المفيد وضع عدة عوامل في الاعتبار عند قراءتنا لأي مقال، هذه العوامل تتلخص بـ "التكوين الفني" الذي يدل عليه ترابط الأفكار والوحدة المكتملة، و"الإقناع" الذي تدل عليه سلامة الأفكار ودقتها ووضوحها، و" الإمتاع" الذي يميزه العرض الشائق الذي يجذب القارئ ويؤثر فيه، و "الحجم"، بحيث لا يتجاوز المقال بضع صفحات، حتى لا يتحول إلى بحث أو دراسة، وأخيراً "الرأي"، إذ من المفروض أن تظهر في المقال ملامح شخصية الكاتب ورأيه الشخصي، هذا إلى جانب وضوح الأسلوب وقوته وجماله، بحيث تصل الفكرة إلى القارئ في تراكيب قوية وألفاظ ملائمة وأساليب جميلة دون تكلف. 
لكن ما نراه اليوم، للأسف، هو الاستسهال، وبخاصة بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة للجميع، حيث ظن البعض أنهم كتّاباً وأخذوا يغرقون هذه المواقع بسيل من الكتابات أسموها مقالات وتحليلات شوّشت فكر المتلقي، لكن سرعان ما سيتلاشى هؤلاء أمام الكلمة الصادقة والرأي الحصيف والوسيلة الإعلامية التي تحترم عقل القارئ، وقد حدث هذا في الأزمة السورية، وتبين للمتلقي الغث من السمين وأخذ يبحث عن كتّابه الموضوعيين ووسيلة إعلامه الرزينة.  
ولعل أكثر ما يحتاجه كاتب المقال السياسي لتطوير أدواته هو التخصص الدقيق لأن الكتابة في السياسة تتناول قضايا وإشكالات هي الأكثر تعقيدًا، نظرًا لتعدد العوامل المؤثرة والأطراف المساهمة فيها، وهذا النوع من الكتابة يمارسه كتّاب متمرسون في الشؤون السياسية يمتلكون خبرات وثقافة تراكمية في مجال اختصاصهم سواء أكانوا صحفيين أو كتّاباً أو محللين سياسيين،  وتعدّ الكتابة السياسية فن مقترن بالعلم، فهي علم لأنها تستخدم المفردات والطرائق المنهجية العلمية في مقدماتها للوصول إلى نتائج مقنعة، وهي فن لأنها تعتمد على قابلية التصور وتطويع الخبرات المتراكمة للكاتب من خلال برمجة الجهد الذهني في نمط الكتابة وسبر منظومة المعلومات وتصنيفها وتطويعها بغية الوصول إلى الاستنتاجات والاحتمالات الواقعية لمسار الأحداث.
في هذا المجال يحتاج الكاتب السياسي إلى تطوير أدواته باستمرار، وأهمها القراءة ومتابعة الأخبار وتحليلها تحليلاً سليماً، كما يجب أن يتمتع بسعة الاطلاع وبناء شبكة من العلاقات مع صناع القرار، هذا ناهيك عن الثقافة الواسعة وامتلاك ناصية اللغة الإعلامية ومفاتيحها ومفرداتها واختيار الموضوعات بشكل دقيق ومعرفة ماهية الشرائح التي يخاطبها معرفة دقيقة، وأهم من كل ذلك "المصداقية" التي هي العلامة الفارقة لمتابعيه، وللأسف فإننا نلاحظ بعض الكتاب ينشطون في زمن الأزمات ليدلي كل منهم بدلوه، فيما يعرف أو لا يعرف، في اختصاصه أو في غيره، بغض النظر عن المحتوى الذي يقدمه للمتلقي، وقد لا يدرك هؤلاء أن عملية الكتابة السياسية عملية صعبة ومعقدة تحتاج إلى مهارات وإمكانات كبيرة جداً لا يمتلكونها، فهي ليست وسيلة لتلميع أسماء أصحابها في الصحف والمجلات والفضائيات!