إيران الثورة والشعب والولاية (1/2)

إيران الثورة والشعب والولاية (1/2)

تحليل وآراء

الخميس، ٢١ فبراير ٢٠١٩

حسن عزالدين (*)

إن الحديث عن الثورة الاسلامية في إيران لا يخلو من جدل حول طبيعتها ونظامها، فهل استطاعت تحقيق مبادئها وأهدافها وتحقيق آمال وطموحات شعبها، أم أصبحت في سياقات أخرى تفتش عن مصالحها الوطنية ومعالجة قضاياها الداخلية دون التزاماتها الاقليمية والاسلامية، سأحاول إلقاء الضوء على التطورات التي حصلت، مسّلطًا الضوء على أهم أسباب الاستمرار والبقاء والصمود في المواجهة والدفاع عن هذه الثورة.

أولا: في الأسباب:

في عام 1961م، وأثناء لقاء جون كينيدي  مع خروتشوف  قال الأخير للأول: "ان ايران هي خوخة فاسدة على وشك ان تسقط".
لم يكن يدرك رئيس الاتحاد السوفياتي بتقديره الوضع في ايران واستشرافه المستقبل بأن ثورة إسلامية بقيادة مرجع ديني وقائد سياسي استثنائي سيسقط شاه ايران وينهي اهم قاعدة أمريكية استراتيجية في المنطقة والتي تشكلت في سياق القطبية الثنائية الدولية ولم يظن احد منهما للحظة ان مستقبلا لإيران سيكون خارج دائرة هذه الثنائية القابضة على دوائر القرار السياسي في اغلب مناطق العالم لصالح خيار ديني وشعبي ثالث يتمرد عليهما ويستقل عنهما ويبني دولة إسلامية مستقلة تشكل نموذجا للاستقلال الوطني والهوية الدينية لنظام حكم ما زال يواجه ويصارع من أجل تحقيق أهدافه.

في تلك المرحلة كانت امريكا تحاول إمساك الواقع الاقليمي، فساهمت في إيجاد حلف بغداد الذي ضم بريطانيا وتركيا وايران حليفة "اسرائيل" ومعهم العراق، وعلى المستوى الدولي هناك صراع بين القطبين، وكانت ايران تشكّل قاعدة ومركزًا استخباراتيًا ضد الاتحاد السوفياتي، في هذه الأثناء عملت أمريكا لمزيد من تثبيت دور ايران في المنطقة عموما والخليج خصوصا لملء الفراغ الذي تركته بريطانيا بخروجها من منطقة الخليج عام 1971 وأدى ذلك الى نوع من الاضطراب وعدم الاستقرار، وباعتبار ان ايران الشاه شكلت سورًا دفاعيًا عن الغرب في وجه الشيوعية بحسب جونسون رئيس الولايات الأمريكية آنذاك، الذي شجعه أيضًا على الديكتاتورية فأرست ثنائية إقليمية عموديًا ركنها الأساسي ايران، وعهدت إليها إدارة المنطقة وقيادتها باعتبار ان الشاه بحسب كيسنجر وزير خارجية أمريكا آنذاك انه "أندر القادة وحليف مطلق"، ثم أضافت له الركن الثنائي الذي تعتمد عليه أمريكا وهو السعودية وأشركتها مع إيران والتي لم تعترض يومها على "شيعية الشاه" ولا على فارسيته ولا على صفويته، فباتت السياسة الأمريكية تقوم على ما يسمى "الدعامتين الاقليميتين" فانخرطت ايران في القيام بدورها وبدأ الشاه بناء قدراته العسكرية واعتماد سياسة التسلح، بعد ان قرر نيكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك تلبية كل ما يطلبه الشاه من السلاح ما عدا السلاح النووي، وتمكن الشاه بدعم أمريكي من جعل ايران في مصاف الدول الاقليمية الكبرى.

وبذلك ارتكزت سياسة الشاه على تعاظم دور ايران الاقليمي وبناء القدرات العسكرية وصرف اموال النفط للتسلح. واما السياسة الداخلية لايران فاعتمدت على أولويات سياسية، واقتصادية واجتماعية، أدّت إلى نتائج ضد مصالح الطبقة الفقيرة ومزيد من التبعية للغرب على المستويات كافة، وأهمّها:

العامل السياسي: قامت سياسة الشاه العائد بعد الاطاحة بثورة مصدق على سحق المعارضة السياسية والدينية وإحكام قبضته الامنية والعسكرية فعطل دور الاحزاب والقوى السياسية وتم تغييب دور النقابات والاتحادات ومصادرة الحريات ومنع التظاهرات والاحتجاجات وجمع مقاليد السلطة بيديه, وأحكم قبضته وأطلق العنان لأجهزة المخابرات "السافاك" فاعتقلوا الكثير من الناشطين السياسيين من مختلف الاتجاهات وزج الكثير من علماء الدين وقادة المعارضة بعد اعتراضهم على مجموعة من القرارت التي تمس بسيادة الدولة والكرامة الوطنية، وأهمهّا:

أ‌ـ اقرار قانون ما عرف آنذاك "قانون الحصانة الدبلوماسية" التي اقرها المجلس في زمن الشاه حيث يمنح هذا القانون حصانة لجميع المستشارين الامريكيين ومعاونيهم ومن معهم، حصانة تمنح اياً منهم فيما لو ارتكب جنحة او جناية بحق المواطن الايراني عدم المثول أمام القضاء العسكري او المدني في ايران ومحاكمته ما اعتبر اهانة لكرامة الشعب الايراني.
ب‌ ـ بعد مرور 12 يوما على قانون الحصانة الدبلوماسية، تم التصويت ايضًا على قرض بقيمة 200 مليون دولار أمريكي من المصارف الامريكية لأجل اولوية التسلح مما اعتبره الامام الخميني والمعارضة انذاك مزيدا من الارتهان الى امريكا ومساسا بالقرار الوطني المستقل.

2. العامل الاقتصادي: اعتمد الشاه في سياسته الاقتصادية على مسارات ادت نتيجة تدخل المستثمرين والمستشارين الامريكان وسيطرتهم على المشاريع وسوء ادارة الاقتصاد ومراعاة مصالح الاقطاع السياسي والزراعي وتهميش القرى والارياف من الخطط والبرامج الى المزيد من الاستيراد للمواد الاساسية حيث بلغت 25% لاستيراد المواد الغذائية مقابل 20% من عائدات النفط ادى ذلك الى تخفيض تمويل القرى والارياف لـ 50 الف قرية وما اصاب الزراعة اصاب الصناعة خاصة استيراد الاليات والاجهزة الكهربائية التي لا تنتج في ايران والذي عقدّ الامور أكثر هو استقدام العمالة من الخارج، كما ساهم في ذلك الفساد الذي استشرى نتيجة التسلح وصفقات الاسلحة والعمولة والسمسرة التي بلغت مئات الملايين من الدولارات وهيمنة الاسرة البهلوية على مفاصل الاقتصاد، ويكفي بعض الاحصاءات للدلالة على ذلك حيث بلغت ممتلكات اسرة بهلوي 70% من طاقة البلاد في القطاع الفندقي 17 مصرفا وشركة تأمين 25 شركة معادن, و8 شركات مناجم و25% من اكبر شركات الاسمنت و10 شركات بناء مواد و10% شركة جنرال موتورز. هذه السياسة الاقتصادية ادت الى فجوة كبيرة في بنية الشعب الايراني فانحازت هذه السياسات لمصلحة الرأسمالية فأوجدت بذلك طبقة برجوازية ثرية عليا تضاف الى اسرة الشاه وطبقة رجال الاعمال مقابل انحدار الطبقى الوسطى وهي الاهم في بنية المجتمع واستقراره والاقوى في نسيج المجتمعات نحو الفقر والبؤس الاجتماعي، وفي هذا السياق ينبغي الاشارة الى موقف تجار السوق الوطنيين ما يعبر عنه بـ"تجار بازار طهران"، حيث إنحاز هؤلاء لمصلحة الشعب الفقير وانتهجوا سياسة تشجيع الصناعة الوطنية والزراعية والذي ساعدهم في ذلك انهم على علاقة وطيدة بالمرجعية الدينية، وكان لهم دور بارز في حركة الثورة فساهموا في الضغط الكبير على الشاه عندما اعلنوا الاضراب مع الامام الخميني.

3. البعد الديني والاجتماعي: استمر الشاه في اجراءاته القمعية وسياساته المدمرة والتي شملت البنى الاجتماعية ومؤسسات المجتمع الأهلي والمؤسسات الدينية على وجه الخصوص. وبقيت حادثة "المدرسة الفيضية"  شاهدة على اجرام النظام التي ذهب ضحيتها عدد كبير جدًا من علماء الدين والطلبة وبقيت تتفاعل شعبيًا وتم اغلاق دور النشر التي تطبع الكتب ومصادرتها، وباعتبار اهمية المرجعية في ثقافة الشيعة للمراجع، فقد كان لها  دورها المهم في التحريض والتحفيز وايجاد الدافع للتعبير والاعتراض على سياسات الشاه، وما تقدم من وضع سياسي واقتصادي نجد ايضا ان الكثير من الشعب بات يعتقد ان خلاصه بالاسلام نتيجة سياسة التغرب "نسبة الى الغرب" التي اعتمدها الشاه تحت ذرائع الحداثة والتقدم فكان رد الفعل عند النساء هو المزيد من ارتداء الحجاب كرد فعل ايماني وسياسي على ما يجري في ايران، اضف الى ذلك الاجراءات التعسفية وقمع العلماء، حيث تم اعتقال الكثير وتعذيبهم في السجون، وفي مرحلة السبعينيات اعتقل ما يقارب 600 من طلبة العلوم الدينية والعلماء وآيات الله ومنهم على سبيل المثال لا الحصر تعذيب آية الله جعفري حتى الموت واعتقال آيات الله منتظري, بهشتي, خامنئي, باهنار, رفسنجاني وزجهم بالسجون وتعذيبهم، وهؤلاء شكلوا لاحقًا أهم قيادات الثورة مع الامام الخميني.

ثانياً: في استمرار وبقاء الثورة:

هناك الكثير من العوامل المتداخلة في السياسة والجغرافيا والثقافة والايدولوجيا فضلا عن القدرات العسكرية والامنية والحالة المعنوية وقدرة الشعب بنسيجه السياسي والاجتماعي والتي ساهمت في استمرار الثورة، ولكن سأقارب أهمّها:

1. قيادة الامام الخميني:

لا اظن احدا يستطيع ان يتحدث عن الثورة الاسلامية في ايران او ولاية الفقيه دون ان يقترن ذلك بالامام الخميني الذي بات يوصف بمؤسس الجمهورية الاسلامية او محقق حلم الانبياء ومهندس النظام السياسي للجمهورية الاسلامية. ويمكننا ان نربط بين عظمة الثورة ومبادئها واهدافها وبين قائدها العظيم الذي يملك همة وارادة وعزم هذه الاهداف وبين شعب اندفع الى الساحات والميادين بدافع إلهي وثوري للمواجهة وروحية قائد توكّل على الله ولا يعرف الخوف ولا تأخذه في الله لومة لائم فكان القائد الأتقى والأشجع والأكثر حكمة وثباتا في المواجهة، والأشد حرصا على مصلحة البلاد والعباد فامتلك ناصية القيادة بكفاءة القائد المقدام الذي يرى ما لا يراه الاخرون ويثبت حيث يتزلزل الاخرون ويتقدم حيث يخاف الاخرون وبحكمته وتخطيطه وتدبيره قاد الثورة وانتصر فكان سر انتصارها وسر بقائها واستمرارها.

لم يساوم الامام الخميني ولم يفاوض ولم يتنازل عن حق الشعب في تحقيق أهداف الثورة واختيار نظامه البديل، وعندما عرض بازركان على الامام حلولا مجتزأة، محذرا إياه من استمرار العنف في البلاد، أجابه الامام بلغة الواثق بالنصر: "يجب أن لا نرضى بالحلول الوسط، إن الغليان الثوري قد وصل إلى ذروته وهذا أكبر ضمان للنصر، واذا شرعت الآن في الكلام عن الالتزام بالنظام فستفقد جيش المؤمنين الذي يعضدك، وستتلاشى حماسة شعبك وسوف يعود الناس إلى منازلهم وسينتهي كل شيء" . عندما قرر الامام العودة الى طهران وهو مهدد باسقاط الطائرة التي تقله والذي بعد الاقلاع بنصف ساعة غط في سبات عميق " الا بذكر الله تطمئن القلوب" وهو الذي تحدى قرارت حكومة بختيار باطلاق النار على من يتجول في شوارع طهران ليلة الانتصار ودعا الجماهير للنزول والتكبير والتهليل لفجر الانتصار وتحمل المسؤولية وتداعيات ونتائج هذا القرار بمسؤولية واطمئنان.

شكّلت شخصية الامام وحزمه، وحسمه للأمور ومبدئيته في الموقف، ضمانة حقيقية لانتصار وبقاء الثورة، ولذلك فهو انتصر بالثورة، كما انتصر ببناء الدولة، فالرجل الذي يملك شرعية وطنية ودينية وثورية وشعبية تسمح له باختيار ما يريد من انظمة حكم سياسي ودون العودة الى أحد، أصرّ على احترام ارادة الناس والشعب فأجرى استفتاءً على نظام الجمهورية الاسلامية دون اضافة أي تعبير آخر، ونتيجة الاستفتاء فاقت 95 % وبعدها مباشرة ذهب الى صياغة الدستور الذي ارتكز على مبدأ ولاية الفقيه ولحماية الثورة وأهدافها وانصاف الفقراء والمستضعفين، ذهب في مسارين الاول: مسار تأسيس المؤسسات الرعائية والاجتماعية والتي تساهم في الوقوف الى جانب الفقراء والمستضعفين وعوائل الشهداء والجرحى الخ...

والمسار الثاني: في استكمال بناء جميع مؤسسات الدولة الدستورية التي من خلالها يتم تداول السلطة، إضافة إلى حماية الثورة بتأسيس الحرس الثوري الاسلامي، هذا القائد الذي يرى فيه الشهيد مطهري أربع خصال: "انه رجل آمن بهدفه فلو تكالبت عليه الدنيا لم تصرفه عن هدفه. وانه رجل آمن بسبيله فلا يمكن صرفه عنه فايمانه أشبه بايمان الرسول "ص" بهدفه وسبيله وانه رجل آمن بشعبه فلم أرَ أحدًا قط آمن بمعنويات الشعب الايراني مثله, ينصحونه ان تمهل قليلا فالناس قد تعبوا او فتروا فيقول كلا ليس الناس كما تقولون انني اعرف الشعب افضل منكم، ونرى صحة كلامه تتجلى يوما بعد يوم، وأخيرا والاسمى من كل ما سبق انه رجل آمن بربه، وبذلك أنجز الامام مهمة تحويل الثورة إلى الدولة باقتدار ورسم السياسات الخارجية والداخلية، وجعل أهداف الثورة مهمة الدولة والنظام والشعب التعاون والتنسيق لتحقيق مبادئ الثورة وما زالت تعمل لذلك.