71 عاماً على النكبة ارتداداتها تمتدّ... وكيانها يهتزّ .. بقلم: معن بشور

71 عاماً على النكبة ارتداداتها تمتدّ... وكيانها يهتزّ .. بقلم: معن بشور

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٤ مايو ٢٠١٩

أي قراءة بعين واحدة للمشهد الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي بعد 71 عاماً على قيام الكيان الصهيوني على ارض فلسطين تبقى قراءة مبتورة وناقصة وعاجزة عن فهم طبيعة التحولات التي يشهدها الصراع بين أمتنا وعدوها الصهيوني…
فمن جهة لا يستطيع أي قارئ موضوعي ان يتجاهل التداعيات الخطيرة والارتدادات الكبيرة التي أطلقها المشروع الصهيوني في المنطقة بأسرها، مدعوماً من المعسكر الاستعماري بنسخه المتعددة، ومحتضنا من قوى محلية تعتقد أن أعداء أمتنا يوفرون لها الأمان في مواقعها أكثر مما تؤمنه لها شعوبها المتطلعة الى الحرية والكرامة والعدالة والوحدة.
وليس من المبالغة بشيء الإقرار بأن جذور العديد من الحروب والفتن والمؤامرات والانقسامات التي شهدتها أمتنا تكمن في طبيعة المشروع الصهيو استعماري وفي مطامعه في بلادنا من مشرقها الى مغربها… فحيثما هناك نار حروب تشتعل، وطبخة تقسيم تطبخ، ترى الأصابع الصهيونية والاستعمارية والادوات المحلية موجودة… والأمثلة على ذلك كثيرة ويومية ولا تحتاج الى تذكير….
لكن بالمقابل هناك مشهد مغاير، يسعى أعداء الأمة في الخارج والداخل، الى طمسه او تشويهه او شيطنته او التآمر عليه، مستفيدين دون شك من ثغرات موضوعية وذاتية في بنانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتحقيق اغراضهم…
وإذا كان ممكناً اختصار ذلك المشهد المغاير بكلمة فهو مشهد المقاومة الممتدة على طول امتنا وعرضها، برايات متعددة، وتجارب متنوعة حتى أمكن القول إن القرنين الفائتين، وبدايات القرن الحالي، كانوا زمناً لصراع لم يتوقف بين الامة واعدائها، وعصراً لمقاومة لم تلق سلاحها في كل أرض كان فيها محتل او مستعمر تحت هذا العنوان او ذاك…
واذا كان المجال لا يتسع للإشارة الى كل فصول المقاومة العربية والاسلامية التي شهدتها امتنا من خليجها الى المحيط منذ أن وطأت جيوش نابوليون أرض مصر في بدايات القرن التاسع عشر وتسمّرت أمام اسوار عكا، وصولاً الى المقاومة العراقية التي أربكت مشروع الشرق الأوسط الجديد ، والمقاومة اللبنانية التي دفنته في حرب تموز 2006، والمقاومة الفلسطينية التي تصارع اليوم نسخته الأخيرة ممثلة بصفقة القرن مروراً بما شهدته مصر والسودان، ليبيا وتونس، المغرب والجزائر، اليمن والخليج، العراق وسورية، لبنان والاردن وفلسطين، فلا بد من نظرة تقييمية سريعة لواقع الكيان الصهيوني نفسه، كقاعدة رئيسية لهذا المشروع المضاد، بعد 71 عاماً على قيامته إثر اغتصاب فلسطين…
فعلى الرغم من كل مظاهر التفوق البارز في الترسانة العسكرية الصهيونية على قوى المقاومة والمواجهة في الأمة، وعلى الرغم من الدعم غير المحدود له من دول الغرب وفي مقدمها الدولة الأميركية، وعلى الرغم من حال الضعف والعجز والهوان والتشرذم الطاغي على الواقع الرسمي العربي، والمنعكس جزئياً على الواقع الشعبي العربي، إلا أن أحداً لا يستطيع ان ينكر ان الركائز التي قام عليها هذا الكيان العنصري الاستيطاني التوسعي الإحلالي تهتز الواحدة تلو الأخرى.
أول هذه الركائز المهتزة هي الامن الصهيوني الذي كان أحد مصادر اعتزاز الصهاينة بكيانهم، وأحد مصادر اجتذاب يهود العالم للهجرة اليه.
فالكيان الصهيوني لم يعد مهدداً في جنوبه بالمقاومة في غزة، وفي شماله بالمقاومة في جنوب لبنان وصولاً الى الجولان نفسه، وفي القلب منه القدس والضفة واراضي 48 فحسب، بل بات عاجزاً عن التخلص من هذه التهديدات المتصاعدة، ولعل في حروبه الفاشلة على لبنان وغزة اوضح دليل على ما نقول.
أما ثاني هذه الركائز وهو مرتبط بالركيزة الأولى، فهو واقع الهجرة حيث تشير كل الإحصاءات واستطلاعلات الرأي الى ان عدد الاسرائيليين الراغبين بمغادرة الكيان يتزايد، وعدد اليهود الراغبين بالقدوم اليه يتناقص، بينما تشير الإحصاءات إلى ان عدد الفلسطينيين المقيمين في فلسطين التاريخية سيفوق عدد الاسرائيليين في وقت ليس ببعيد… وهو ما يُطلق عليه بالقنبلة الديموغرافية…
الركيزة الثالثة التي قام عليها هذا الكيان هي الدعم الدولي له منذ تأسيسه عام 1948، وهو دعم رسمي وشعبي عالمي، دعم عسكري وسياسي، اقتصادي وإعلامي، بات يشكل مصدر قوة رئيسي لهذا الكيان….
فلم يعد خافياً على أحد حجم الذعر الصهيوني من هذا التحول في الموقف الدولي تجاه الكيان الغاصب، والذي يعبّر عن نفسه بأكثر من تصويت شهده مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح فلسطين ولغير صالح تل أبيب وحليفتها واشنطن…
ويعبر هذا التحول عن نفسه بهذا الحراك المتصاعد على المستوى الشعبي في دول الغرب تحديداً، والرافض للسياسات العدوانية والعنصرية للعدو الصهيوني، واتساع حملات المقاطعة لمنتجات هذا الكيان ومستعمراته بما يذكر بحملات المقاطعة لنظام الأبارتايد العنصري في جنوب أفريقيا قبل سقوطه…
وحتى في الولايات المتحدة الأميركية الحصن الحصين للكيان الصهيوني وشريان الحياة الرئيسي له، فإن تحولاً هاماً يحصل على صعيد الرأي العام الأميركي، سواء في الإعلام البديل او الجامعات، او حتى داخل الكونغرس، الى درجة أن كبريات مجموعات اللوبي الصهيوني الأيباك لم تواجه في تاريخها حصارات متزايدة كما تشهد هذه الايام، لا سيما بعد ان فتحت النائبة المنتخبة حديثاً في مجلس الممثلين في الكونغرس الهان عمر ملف الرشاوى التي تدفعها الأيباك لبعض اعضاء الكونغرس الأميركي.
حتى الجالية اليهودية في أميركا، وهي شديدة النفوذ والتأثير، بدأ العديد من اركانها، ولا سيما جيل الشباب فيها، يبدي اعتراضه، بشكل او بآخر، على هذا الالتحاق البشع من قبل ادارة بلاده في واشنطن بسياسات نتنياهو العنصرية، كما يبدي البعض حذره من تنامي حركة معاداة اليهود لهم في الولايات المتحدة نتيجة هذه الذيلية الأميركية للنفوذ الصهيوني…
الركيزة الرابعة الآخذة بالاهتزاز أيضاً هي ركيزة ايديولوجية، حيث تقوم الايديولوجية الصهيونية أساساً على فكرة التوسع، وعلى ان حدود اسرائيل الكبرى تمتد من الفرات الى النيل الى درجة ان ديبلوماسياً مصرياً ذكر لي أن الصهاينة حريصون على ان يكون مقر سفارتهم في القاهرة غرب نهر النيل.. لأن الارض، التي تقع شرق النيل هي أرض اسرائيلية ولا يجوز ان تقوم سفارة للكيان فيها…
هذه الثوابت الايديولوجية للحركة الصهيونية أُخترقت أولاً بالانسحاب من سيناء، ومن جزء من الجولان، ومن جنوب لبنان، ومن غزة اي من جزء من فلسطين التاريخية التي تعتبرها الحركة الصهيونية قاعدة مشروعها الأيديولوجي .
ولم يكتف الصهاينة بالاندحار عن هذه الارض المحتلة بل عمدوا الى تفكيك مستعمراتهم فيها وهو أمر مناقض للايديولوجية التي ترى في هذه المستعمرات اساساً لوجود الكيان…
وبالإضافة الى هذا التراجع الأيديولوجي الخطير عن العقيدة الصهيونية التوسيعية نلاحظ ايضاً تنامياً في المأزق الصهيوني نتيجة تناقض متصاعد بين فكرة السوق الشرق اوسطية المفتوحة التي دعا اليها بيريز في كتابه الشهير الشرق الاوسط الجديد الذي أصدره عقب حرب الخليج الأولى عام 1991، وعقب مؤتمر مدريد 1991، وعشية الاتفاقات المشؤومة في اوسلو ووادي عربة، وبين واقع بناء الجدران العازلة داخل فلسطين، وعلى تخوم غزة، وفي جنوب لبنان، بما يشير الى انتصار خيار القلعة المغلقة داخل الكيان بكل ما يعنيه ذلك من تناقض جذري مع العقيدة الصهيونية التوسعية.
الركيزة الخامسة التي يرتكز عليها هذا الكيان، وقد تكون الأخطر والأهم من كل الركائز الأخرى، هي الواقع العربي الرسمي بما فيه من تخاذل وتواطؤ وتطبيع، والواقع العربي الشعبي بما عليه وبما فيه من انقسام وتفتيت وقمع رسمي وقهر… وهذا الواقع هو ما اسميه دائماً بالقبضة الفولاذية الحقيقية التي تحمي هذا الكيان…
لكن تل أبيب تدرك اكثر من غيرها ان هذا الواقع بتضاريسه الحالية يتجه الى التغيير ـ بفعل التغييرات المتصاعدة على المستويات الإقليمية والدولية، والتبدلات المتسارعة في موازين القوى لغير صالح المعسكر الصهيو استعماري، كما يتغير لصالح محور المقاومة الممتد من جنوب فلسطين الى جنوب لبنان الى سورية وإيران وانتصار هذا المحور على العديد من المحاولات الرامية الى إخضاعه لا سيما في سورية، حيث يترنّح المشروع الرامي الى إسقاط الدولة السورية التي شكلت وما تزال عقبة كأداء امام توسع المشروع المعادي للأمة وما ينطوي عليه من مخططات وأحلاف.
وطبعاً، كي لا نسارع الى الخروج باستنتاجات عجولة لا بد من التأكيد على أن هذا التراجع في قوة الأعداء لا يعني هزيمتهم الكاسحة، وان التقدم في قوة محور المقاومة لا يعني الانتصار الحاسم، بل ان الأمة كلها تعيش في منزلة بين المنزلتين وتحتاج الى جهود أكبر ووحدة أمتن، وتضامن عربي وإسلامي حقيقي، وخروج جدّي من حال التشرذم والانقسام والتحريض الطائفي والمذهبي والعرقي…
فكلما اتجهت الأمة نحو التضامن والتكامل والتعاون، وكلما اتجهت قواها وتياراتها وأحزابها الملتزمة بمشروع نهوضها نحو عمل وحدوي مشترك، كلما اقتربنا من إسقاط المشروع المعادي للأمة بكل تجلياته وأخطرها الكيان الصهيوني ذاته الذي كما وصفه يوماً امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في مثل هذه الأيام من عام 2000 بعد اندحار المحتل عن جنوب لبنان: بـ أنه أوهن من بيت العنكبوت»…
فعلى الرغم من كل مظهر معاكس، فإن ارتدادات النكسة بعد 71 عاماً ما زالت مستمرة، ولكن كيان العدو يشهد في فلسطين، وعلى مستوى الأمة، اهتزازاً وترنحاً لا بد أن يقود الى سقوطه ولو بعد حين.