ماذا بعد جون بولتون؟.. بقلم: د.منار الشوربجي

ماذا بعد جون بولتون؟.. بقلم: د.منار الشوربجي

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩

مدهشة تلك التغطية الإعلامية، شرقاً وغرباً حول العالم، لإقالة، أو استقالة، جون بولتون من البيت الأبيض إذ غاب عنها القضية الأكثر أهمية على الإطلاق في مستقبل صنع السياسة الخارجية الأمريكية.
فقد ركزت التغطية في البداية على ما إذا كان بولتون أقيل أو استقال، رغم أن النتيجة واحدة في ظني، لأن ما لن يتغير في الحالتين هو أن الخلاف بين الرئيس ترامب وبولتون كان واضحاً للعيان في أكثر من تصريح وموقف قبل رحيل بولتون وصار مؤكداً بعد رحيل الرجل. وكان وجود روايتين أصلاً، أي الإقالة أو الاستقالة، هو أحد تجليات ذلك الخلاف المستمر.
كما ركزت التغطية الإعلامية على أمرين آخرين، أولهما اعتبار أن خروج بولتون معناه رغبة ترامب في التخلص من صقور السياسة الخارجية، والعودة لتعهده الانتخابي بالتراجع المنظم عن الطابع الإمبراطوري للسياسة الخارجية، بما في ذلك الدور العسكري الأمريكي في الخارج. وثانيهما، كان التخمينات بخصوص من الذي سيخلف بولتون مستشاراً للأمن القومي ودلالات الاختيار.
والحقيقة أن اعتبار سياسة ترامب الخارجية معادية للطابع الإمبراطوري بما في ذلك الدور العسكري الأمريكي في الخارج يجانبه الصواب لحد كبير. فلا يمكن أن تكون سياسة ترامب معادية للطابع الإمبراطوري بينما يستخدم ما يسمى «الضغوط المفرطة» على دول شتى لإجبارها على الانصياع لأمريكا. ولا يمكن أن يكون من يتوسع في استخدام العقوبات الاقتصادية معادياً للطابع الإمبراطوري أصلاً.
كما لا يمكن لمن يرفع الميزانية العسكرية لبلاده لمستويات غير مسبوقة أن يكون معادياً للدور العسكري لها، وخصوصاً أنه استخدمها أصلاً داخل أمريكا نفسها على الحدود مع المكسيك. ثم إنه ليس صحيحاً أن ترامب لم يستخدم القوة العسكرية في الخارج.
فهو أمر بضربتين عسكريتين لسوريا وتوسع بشكل مذهل في استخدام الطائرات من دون طيار للقصف العسكري والاستخبارات في مواقع متعددة حول العالم. هو توسع فاق أوباما الذي أفرط في استخدامها أصلاً. فقد فاق استخدام ترامب لها في عامين ونصف استخدام أوباما لها طوال ثمانية أعوام.
أما من يخلف جون بولتون فهو قصة بلا معنى أصلاً ما لم يتم ربطها بالقضية الأكثر جوهرية وهي مستقبل مجلس الأمن القومي. فرغم الخلاف الدائم بين ترامب وبولتون، سيظل أهم ما فعله بولتون بالبيت الأبيض هو تقويضه المنظم لدور مجلس الأمن القومي في صنع السياسة الخارجية.
فبعد الحرب العالمية الثانية، أصدر الكونجرس قانوناً عام 1947، أنشأ بموجبه مجلس الأمن القومي، بهدف محدد هو، بنص القانون، التنسيق بين الهيئات والوزارات المختلفة التي تصنع السياسة الخارجية. فكل وزارة أو هيئة لها دور في صنع السياسة الخارجية الأمريكية تنظر للقضية نفسها من واقع طبيعة دورها، وهو ما يؤدي لخلافات بينها حول السياسات، ويؤدي بدوره لتقديم كل منها بدائل متعارضة ومتناقضة للرئيس.
ومن هنا، يأتي دور مجلس الأمن القومي حيث مهمته الرئيسة التنسيق بين تلك الوزارات والهيئات سواء في صنع السياسة، عبر تقديم منظومة متكاملة من تلك الرؤى والبدائل للعرض على الرئيس للاختيار بينها، ثم التنسيق بينهم في تنفيذ السياسة التي يقع اختيار الرئيس عليها، لضمان تنفيذها وفق رؤية الرئيس.
ومستشار الأمن القومي يقف على قمة جهاز متكامل من الخبراء المؤهلين في كل قضية دولية، إذ لا يقوم ذلك المستشار بالمهمة المنوطة بالمجلس منفرداً بالقطع.
وعبر التطور التاريخي منذ إنشاء المجلس، اكتسب المجلس ومستشار الأمن القومي قوة كبيرة بفضل الخبرات الموجودة فيه وصار لاعباً رئيساً في صنع السياسة الخارجية حتى إن بعض المستشارين لعبوا أحياناً أدواراً أقوى من بعض الوزراء، مثلما كان كيسنجر أقوى من وزيري الخارجية والدفاع في عهد نيكسون.
لكن بولتون منذ توليه المنصب قوض كل ذلك. فهو، كأحد عتاة تيار المحافظين الجدد، لديه أجندة سياسية شخصية سعى لتنفيذها من خلال منصبه. وهو شخصية مغالية في الغطرسة، الأمر الذي جعله يعد أن المجلس الذي يرأسه، بخبرائه وطريقة أدائه، معوق لتنفيذ أجندته، فهمش دوره، الأمر الذي صار بموجبه أن هناك مستشاراً للأمن القومي من دون مجلس، أي صار دوره بالغ الشخصنة يتحرك بمفرده، الأمر الذي كان مسؤولاً بدرجة كبيرة عن فوضى السياسة الخارجية للغياب شبه الكامل للتنسيق بين وزارات وهيئات صنع القرار.
ومن هنا فإن القضية الجوهرية ليست فيمن يخلف بولتون، وإنما فيما إذا كان مستشار الأمن القومي الجديد ستكون لديه الرغبة في استعادة دور مجلس الأمن القومي.
Ⅶ كاتبة مصرية