الكرد يريدون عبور النهر مرتين.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

الكرد يريدون عبور النهر مرتين.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٨ أكتوبر ٢٠١٩

ثمة محاولات مكشوفة وهي أقرب إلى السذاجة منها إلى أي شيء آخر، ترمي إلى إعطاء ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية» المسماة اختصاراً «قسد» وقتاً آخر مستقطعاً كبديل عن الوقت الضائع، فالأصلي من هذا الأخير قد أزف منذ حين وهو ما تدركه القيادات الكردية جيداً بالتأكيد.
تنوقلت في الأيام الأخيرة أخبار تؤكد، وبعضها ينفي، سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة السخنة بريف حمص والواقعة على طريق تدمر دير الزور، وبغض النظر عن مصداقية تلك الأخبار من عدمها، والحالة الأخيرة هي الأصح، فإن الأمر في معطياته السياسية يعني تهتكاً في مشروعية البقاء استدعت مد النسيج المتهتك بجرعات منشطة تعيده إلى مراحل الولادة والنشوء، فالمشروعية هنا قامت على محاربة داعش وإذا ما كان هذا الأخير قد غاب كما جرى الإعلان عنه في الباغوز آذار الماضي فما هو مبرر الاستمرار إذاً؟
هنا نجد أن من الضروري القول إن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال يحتفظ ببعض الجيوب الصغيرة في المنطقة الممتدة ما بين السخنة في ريف حمص وبين الميادين بريف دير الزور، وهو يتخذ من تلك الجيوب منصة للقيام ببعض الهجمات حدث العديد منها في خلال الأشهر الماضية وهي تتماشى، ولا تتعدى، أسلوب «الذئاب المنفردة» الذي تبناه التنظيم في أعقاب خسارته لعاصمتيه الموصل والرقة في كل من العراق وسورية على التوالي، إلا أن ذلك الوجود غير ذي أهمية كبرى وهو لا يشكل خطراً يذكر على أي من مرافق الحياة بل لم يعد يمثل رقماً في المعادلة القائمة ما بعد حزيران 2014 التي استأجرت فيها واشنطن البندقية الكردية بعدما حدث الافتراق الأميركي الداعشي إبان سقوط حكم الإخوان في مصر بتموز 2013.
كان الاعتقاد الكردي، ولربما شاركهم الأميركيون الاعتقاد نفسه، أن دمشق وفي أعقاب الإعلان عن الانتصار على داعش سابق الذكر والحاصل في أواخر آذار الماضي سوف تهرع لإرضاء الأكراد وبأي أثمان، تولد ذلك الاعتقاد انطلاقاً من أن المناطق التي تمت السيطرة فيها للبندقية الكردية بدعم أميركي تحوي جل الثروة النفطية للبلاد وكذا جل منتوجها من الحبوب والقطن، وهو ما عبر عنه القائد العام لـ«قسد» مظلوم عبدي في تصريح له في آب الماضي حين قال: إن سورية ستكون دولة فاشلة من دون «شرقها»، فعلى الرغم مما يحتويه هذا الشرق إلا أن أهم ما فيه هو أنه أحد جناحات قاسيون التي اعتاد التحليق بمساعدتها، وفي الصراعات الكبرى، مما يمكن اعتبار الصراع السوري في الذرا منها، تصبح تلك الأشياء المسماة «ثروات» أموراً هامشية أو هي ملحقة بمحور الصراع الأساسي الذي يمكن أن يرقى هنا إلى حدود الوجود، فالكيان السوري الذي عانى على امتداد قرن من قيامه في العصر الحديث، كان على الدوام يعاني من قلق سماه مفكروه بـ«قلق التكوين» الناجم أصلاً عن فقدان أجزاء منه في الجنوب والغرب والشمال. والمتتبع للسياسة السورية بأدق تفاصيلها يستطيع تلمس ذلك القلق بشكل محسوس، وهو اليوم من المستحيل عليه تحمل جرعة قلق زائدة ناجمة عن فقدان أجزاء أخرى بما لا تحتمله التركيبة السورية الراهنة.
من الممكن للمتتبع للسياسات الكردية، دون أن يعني ذلك أنها ممثلاً لكل الأكراد، سيرى أن غرف صناعة القرار السياسي فيها مدركة جيداً لحقيقة أن الإيديولوجيا التي تتبعها، وتسعى إلى تحقيقها، لا تمتلك ميزة «الموطن الأصلي» الذي يتيح لها النمو طبيعياً بفعل المناخ السائد محلياً، ولا بد لاستزراعها من تدخل خارجي يؤمن مجمل الشروط اللازمة لنجاح عملية الاستزراع سابقة الذكر، ولربما هذا هو ما يفسر العديد من الدعوات التي برزت مؤخراً وهي تلحظ أن التعويل على مبررات داخلية لقيام كيان كردي في الشرق السوري تبدو أمراً غير واقعي ولذا خرج هؤلاء بتوصيات مفادها وجوب التعويل على «فعل خارجي» ترمى كامل الأثقال به كشرط لازم لوصول عملية «البتر» إلى غاياتها.
يدرك الأكراد أن إعلان اللجنة الدستورية الحاصل أواخر أيلول قد وضعهم أمام تحد وجودي للمشروع، والمؤشرات الدولية والإقليمية كلها كانت جازمة في تغييبهم، ولربما كان الأبرز منها بالنسبة إليهم هو أن الرئيس الأميركي لم يعمد إلى التذكير بـ«الحليف الكردي» بل ولم يأت على ذكر سورية بتاتاً في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثالث والعشرين من أيلول الماضي، ثم إن هذا المؤشر المهم كانت له تبعاته على الأرض وهي تكشفت سريعاً عبر التوتر الحاصل ما بين أنقرة وواشنطن على خلفية الخلاف حول تنفيذ اتفاق 7 آب القاضي بإنشاء المنطقة الآمنة، وفي محطاته، أي محطات الخلاف، الأبرز كان تصريح الرئيس التركي في الأول من الشهر الجاري الذي قال فيه: «لا يمكن لتركيا أن تخسر يوماً واحداً بشأن هذه المسألة.. لا يوجد خيار آخر سوى التصرف بمفردنا»، وهذي التصريحات يأخذها الأميركيون على محمل الجد وقد نقلت «وول ستريت جورنال» في الثالث من هذا الشهر عن مسؤولين أميركيين قولهم: إن المزيد من الأدلة قد تراكمت هذا الأسبوع وجميعها تشير إلى حالة استعداد تركيا لدخول قواتها إلى مناطق شرق الفرات التي تسيطر عليها ميليشيا «قسد»، والمؤشرات تزداد حدة إذا ما أضفنا عليها تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال في مؤتمر فالدي للحوار الإستراتيجي في 2 تشرين الجاري: «إن موسكو تعمل لإبقاء هذا الملف، أي ملف المنطقة الحدودية بين سورية وتركيا، موضع تفاعل بين سلطات الجمهورية العربية السورية وجمهورية تركيا».
الآن السيناريو الأكثر رجحاناً هو أن القوات التركية ستدخل مناطق سيطرة «قسد» بموافقة روسية وصمت أميركي لن يكون أمامه من خيار سوى المضي في سحب قواته من تلك المنطقة وذاك خيار يتساوق مع رؤية الرئيس دونالد ترامب التي أطلقها أواخر كانون الأول الماضي وما دعا إلى تغييرها فيما بعد وهو الوصول إلى حل وسط ما بين البيت الأبيض والبنتاغون يقضي بتقليص عديد القوات الأميركية، واللافت في هذا السياق هو أن «مجموعة دراسة سورية» وهي لجنة تضم 12 عضواً من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء كانت قد أوصت في تقرير قدم إلى ترامب في 25 أيلول الماضي بعدم الانسحاب من سورية، إلا أن المؤكد أن مواقف هؤلاء ستكون ضعيفة عندما تقدم أنقرة على عمل عسكري، يبدو أنه بات أكيداً، تهدف من خلاله إلى نزع «التهديد» الكردي القابع على حدودها الجنوبية، وهذا الاحتمال تزايد مع الإعلان عن اندماج ميليشيات «الجبهة الوطنية للتحرير» مع «الجيش الوطني» الذي جرى الإعلان عنه في أنقرة يوم الجمعة الماضي، فهو يعني من الناحيتين السياسية والعسكرية تحصيناً لمواقع تركية في إدلب قبيل الولوج إلى عمل عسكري في شرق الفرات.
تعززت آمال الأكراد ما بين العامين 2014-2017 بإمكان استعادة مناخات اتفاقية «سيفر» للعام 1920 إلا أن تلك الآمال ذرتها رياح عواصف عدة بدأت في كركوك 2017 وحطت في عفرين 2018 فيما مراكز الأرصاد تشير الآن إلى أن منخفضاتها ستتركز في القامشلي ورأس العين وتل أبيض، ما يعني بالتأكيد أن الأكراد باتوا على موعد مع مناخات اتفاقية «لوزان» 1923.
يقول الفيلسوف هيراقليطس: «إنك لن تستطيع أن تعبر النهر مرتين» وهو يعني أن مياه النهر في المرة الأولى ستكون غيرها في المرة الثانية لأن طبيعتها ببساطة ستكون قد تغيرت، والأكراد اليوم يحاولون عبور النهر مرتين!