أحداث العراق.. بين مطرقةِ الخارج وسندان بريمر

أحداث العراق.. بين مطرقةِ الخارج وسندان بريمر

تحليل وآراء

الاثنين، ١٨ نوفمبر ٢٠١٩

في هذا العالمِ المُلتهِب قد نشعرُ بالفخرِ أن القدرَ ساقَ إلينا عقوداً شهدت كل ألوانِ الثوراتِ الشعبية الممكنة والمزركشة بالكثيرِ من أشكالِ الاتجاهات السياسية والفكرية وحتى الطائفية، لكن النقطة الجامعة لكلِّ هذهِ الثورات ليس فشلها المطلق على مستوى بناءِ تجاربَ ديمقراطية يتساوى فيها المواطنونَ على أساسِ الموَاطنة فحسب، لكنها كذلكَ الأمر لم تجرّ على البُسطاء إلا الخرابَ والدمار أو إنها انتهت بأن أوصلت إلى السلطة ديكتاتورياتٍ دينية ومذهبية لا تفرق عن باقي الديكتاتوريات التي كانت قائمة إلا بشكلِ الهتاف أو اتجاهَ الشعار.
هذه الإخفاقات المتلاحِقة لكل ما ينضوي تحت مصطلحِ «ثورة» لم يجبرنا على كرهِ هذا المصطلح فحسب، لكنهُ بذاتِ الوقت يطرح تساؤلاً منطقياً: هل فعلياً أن هناك أيادي قادرة أن تحرّكَ كل هذه الثورات وتقودها نحو الفشل والفوضى؟
للإجابة عن هذا السؤال لابدَّ من التعاطي بموضوعيةٍ مع وجهتَي النظر المتصارعتين في هذا المجال:
وجهة النظر الأولى، وهي تلك التي يجهد من يتبناها ليقنعنا أن كل ما يجري مؤامرة ومخطط، وهو بذلك يتجاهل أن تحليل هكذا أحداث مصيرية يفرض عليه ببساطةٍ أن يتعاطى بواقعيةِ تناول الحدَث لا الأخذَ بعواطفهِ تجاهَ هذا الحدث، على هذا الأساس قد نصل مع من يمثل وجهةَ النظر تلك إلى نتيجةٍ مفادها: قبل أن تُغدق علينا بالوثائقِ والمستندات لتقنعنا أن هناك مؤامرة، عليكَ ببساطةٍ أن تشرَح لنا ماذا أعددنا للوقوف بوجهِ هذه المؤامرة؟ عندما يخاطبك عدوك حسب وثائقكَ بطريقةٍ واضحة وعلنية بأنهُ قادمٌ إليكَ بأجندةٍ تدميرية تسعى لتمزيق البيت الواحد وتقليبَ الأخ على أخيهِ، عندها عليكَ أن تتحمل مسؤوليتك كمثقف وتشرح لنا هل إن العدو يخاطبنا ويهددنا بهذه الأريحية انطلاقاً من فرطِ القوة ما يجعله يبوحُ بكل خططهِ، أم ببساطةٍ هو يمتلك كل الثقة بهشاشةِ البيئة الداخلية لِلخصم؟!
أما الطرف الثاني الذي لا يزال حتى الآن يُكابر ويتجاهل فرضيةَ وجودِ مؤامراتٍ وأصابعَ خفية تضرب من يقف بوجهِ مصالح الرأسمالية العالمية القميئة، أو بالحدِّ الأدنى تحاولُ استغلال مطالب الشعوب للوصولِ إلى هدفها، ومنعَ قيامةَ منطقة كهذا الشرق البائس لأن قيامته ممنوعة، فببساطةٍ يبدو تكرار الشروحاتِ لهم مضيعة للوقت لتنطبقَ عليهم مقولة من لا يرى من الغربالِ أعمى.
لكن كلا الطرفان فيما يبدو يجتمع حولَ نقطةٍ واحدةٍ وهي الأخذَ بكلِّ الثورات أو كل الحراكات التي تجري كسلةٍ واحدة، فبالنسبة للطرف الأول حتى لو صرخَ أحدهم ثورة في جزر المحيط الهادي فهي حكماً مؤامرة والدليل لديهم بسيط: لماذا لا تقوم ثورات في الدول التابعة لأميركا؟
أما الطرف الثاني فلمجرد أن يقول أحدهم ثورة فسيصبح منظِّراً بالحرية والديمقراطية وهو ربما لا يمارِس هكذا مصطلحات حتى في حياتهِ العائلية، فيتحول قاطع الطريق الذي كان يشتم الناس على الحواجزِ مثلاً إلى بطلٍ قومي، والذي يريد استجلاب الناتو إلى بلده ليحتله هو ثائرٌ ورمز، ليغدو كلا الطرفين متعاطياً مع كل ما يجري من مبدأ أن آراءهما مستمدةٌ من اللوحِ المحفوظ، لكن الواقع لا يقول كذلك إذ عندما تجري أنهار الدماء لا يكفي أن نقول رأينا ونمشي تحديداً أن لكلِّ حدثٍ خصوصيتهُ والأمثلة واضحة أمامنا.
البعض يجزّئ ما يجري ويربطهُ مباشرةً بقضايا باتت أشبهَ بالتكرارِ الممل من بينها مثلاً غياب العلمانية في الدولة أو سيطرة رجال الدين وطبيعة مجتمعاتنا وتكوينها المذهبي أو الاجتماعي، لكن هل يمكننا القول مثلاً إن في بوليفيا اليوم هناك سنة وشيعة يتصارعون؟ هل فكرَ أحد أولئك المقتنعين بهكذا فرضيات أن يروا كيف يجري سحلَ وتعذيب أنصار الرئيس البوليفي المخلوع أيفو موراليس؟ ماذا عن تشيلي أليست أحد أغنى دول أميركا الجنوبية وتغرد خارج سرب الأزمات الاقتصادية أو الديمقراطية والاجتماعية؟
على هذا الأساس لا يمكن أن نأخذ كل ما يجري من أحداثٍ في هذا العالم بسلةٍ واحدةٍ، فلكلِّ حدثٍ أو دولة خصوصيتها ليصبح السؤال الجوهري ماذا يجري في العراق، ثورة أو مؤامرة؟!
قد نعترف أن تناولَ ما يجري من أحداثٍ في العراق قد يبدو عملياً أشبهَ بعبورِ حقل ألغام، ويستحق الكثير من العنايةِ والتدقيق لا وجهاتَ نظرٍ شخصية مسبقة ولا حتى لأيديولوجيات قد تبدو كمن يكرّرُ اتهامات لا طائلَ منها، بل علينا الإجابةِ عن التساؤلات الآتية:
أولاً: ماذا يعني لك دستور بريمر؟
لا يمكن لنا ببساطةٍ أن نكون مقتنعين أن عدونا يريد تقسيمنا إلى دويلاتٍ مذهبيةٍ ودينية متناحرة حتى تكون «دولة إسرائيل» هي الدولة الدينية الأقوى في المنطقة، وبذات الوقت نتهم المطالبين بإلغاء دستور بريمر بالعمالةِ والتبعية للسفارات، إن دساتير كتلك التي تحكم لبنان والعراق هي بالنهايةِ دساتير تسهِّل عملياً الفرز الطائفي والمذهبي بل يمني نفس من يتبناها بتعميمها في دولٍ ثانية، والمفارقة هنا بسيطة: هل يمكن لنا أن نصدقَ أن دولةِ احتلال ستضعَ دستوراً يسهّل بناءَ دولة العدالةِ مثلاً؟ كيفَ لنا ببساطةٍ الاعتقاد أن دستور بريمر الذي لا يزال هو الآمر الناهي، يمكنهُ ببساطةٍ أن يبني دولةً ما؟ إن هكذا دستور هو قيمة مضافة للدول التي تسعى للسيطرة على العراق بشتى أنواع السيطرة، والوقوف بوجههِ هو عملياً بحث عن مصلحةِ الشعب العراقي، ولتذهب إلى الجحيم مصالح الدول المتضررة من سقوطهِ.
ثانياً: ماذا يعني قانون اجتثاث البعث؟
ربما كثر ممن يتعاطونَ مع المجريات في العراق يتجاهلونَ الحديث عن الهدف الأساس لإقرار هكذا قانون من أولئك الذين دخلوا بلادَهم على ظهرِ الدبابات الأميركية، وما زالوا يمارسونَ فسادهم الإداري والمالي بحقّ الشعب العراقي حتى يومنا هذا. إن إقرارَ هكذا قانون والذي عملياً يتعارض مع فكرة جلب الحرية والديمقراطية للشعب العراقي لأنه يقصي ملايين البعثيين، بمعزلٍ عن رأينا بالبعث وتوجهاته، لكنه ببساطة كان اللبنة الأولى لقتل ما يمكن أن يُجمع عليه العراقيون، أي فكرة العمق العروبي للعراق الذي يشكِّل امتداداً طبيعياً كبوابةٍ لهذا العمق في منطقة الخليج العربي.
أخيراً: ماذا عن الشعارات التي يتم طرحها في المظاهرات؟
ربما يأخذ البعض على الحراك فرضيةَ أن هناك شعارات بدَت في اتجاهٍ واحد منها مثلاً شعارات ضد إيران والنفوذ الإيراني في العراق، أو حتى مهاجمة قنصلياتها فيما تنعم القنصلية الأميركية بالرخاء والهدوء، لكن هذا المأخذ قد يتم الإجابة عنه بشقين: الأول أن هذه الصور مجتزأة بمعنى أن هناك من يهتف ضد إيران أو سورية، ولكن بذات الوقت هناك من يطالب بأفضل العلاقات مع إيران أو سورية، فلماذا لا يتم الإضاءة عليها؟ أما موضوع حرق القنصليات أو ما يسمى اصطلاحاً ضرب المصالح الإيرانية في العراق، فهناك من يجيب عنه ببساطة بأن هكذا اعتداء هو لتشويه صورة الحراك فهناك كثر متضررون منه منهم أميركا وإسرائيل، بل قد لا نستغرب إعلان الإسرائيليين ذات أنفسهم دعمهم للعراقيين عبر التويتر بذريعةِ إخراج إيران من العراق، لكن من هذا الذي يصدق أن الإسرائيلي ذات نفسه يكترث لخروج أو دخول إيران من العراق؟ الإسرائيلي من مصلحتهِ أن تكون الدولة العراقية ممزقة ودعمه للحراك أو بمعنى أدق إظهار الحراك كخطوة تشجعها إسرائيل قد يكون هدفاً بعيداً لجعل الناس تنفض من حوله، فماذا ينتظرنا؟
ربما من البدهي وبعدَ ما تعرضنا لهُ في سورية أن نكونَ ضد كل ما هو مرتبط بفكرةِ الثورات، لكن هذا الكلام لا يمكن تطبيقهُ على أي حراك وبمعنى آخر، إن كانوا يريدوننا دولاً بلا عمق عبر إشعال كل من سورية ولبنان والعراق دفعة واحدة، لندافع عن هذا العمق بتجزيء الصورة لا بتعميمها، لندافع عن هكذا عمق بأن نكون نحن من يتبنى هكذا حراك ومطالب، لا أن نتركه عرضة للأميركي والإسرائيلي ليستغله وينقضّ عليه، وبصورةٍ أوضح: أي حراك يسعى لانتشال مخالب الطائفية أو المذهبية من أي دولةٍ عربية، دون أن ينقلها من دلف المذهبية إلى مزراب إسرائيل أو «الوهابية»، هو حراك يجب عدم الوقوف بوجههِ حتى يثبت العكس.