أنقرة وحدود «الميثاق الملّي».. بقلم: محمد نور الدين

أنقرة وحدود «الميثاق الملّي».. بقلم: محمد نور الدين

تحليل وآراء

السبت، ٢٨ ديسمبر ٢٠١٩

تواصل تركيا سياسات بدأت مع «صفر مشكلات»؛ لكن بطريقة عكسية. ولم يعد حديث العودة إلى حدود «الميثاق الملّي» مجرد شعار؛ بل أصبح حقيقة وواقعاً.
انتهجت تركيا مع حزب «العدالة والتنمية» ما اعتبرته «قوة ناعمة» للتوسع. فأقامت علاقات متسامحة ومرنة، وأزالت العوائق الحدودية مع كثير من الدول فتدفقت الاستثمارات الخارجية، ولا سيما من الدول العربية، ونهض الاقتصاد التركي؛ ليحقق قفزات نوعية.
غير أن كل ذلك كان كالطعم الذي يرميه الصياد في صنارته حتى إذا تمكّن كشّر عن الوجه القبيح الذي أراد أن يفترس كامل المنطقة العربية من سوريا إلى الخليج العربي، وصولاً إلى مصر والسودان وليبيا وتونس والمغرب.
وهي البقعة ذاتها التي كانت تابعة لسيطرة السلطنة العثمانية سيئة الذكر. وهذا في أساس سياسات العثمانية الجديدة التي وضع أسسها أحمد داود أوغلو وعبد الله غول ورجب طيب أردوغان.
وإذا كان داود أوغلو وغول على خصام الآن مع أردوغان فهذا لا يعفيهما وكل من كان في السلطة منذ عام 2002 وحتى اليوم من النتائج الكارثية المدمرة على المجتمعات العربية من جرّاء السياسات الغربية الاستعمارية، معطوفة على سياسات الافتراس العثمانية.
لما دارت الدوائر وانكسر المشروع العثماني في أكثر من مكان، حلت محله نغمة «حدود الميثاق الملي» التي ظهرت بقوة بعد بدء أول عملية احتلال تركية لأراض سورية بعملية درع الفرات في صيف 2016. والمفارقة أن الحديث عن «الميثاق الملي» لم يقتصر على الأراضي العربية التي كانت تابعة للسلطان العثماني؛ بل على دول أخرى كانت تحت الاحتلال العثماني مثل اليونان. وقد برز سجال حاد بين أنقرة وأثينا في سبتمبر/أيلول 2016 حول إيماء أردوغان أنه يريد تغيير معاهدة لوزان عام 1923، والعودة إلى حدود «الميثاق الملي»، بما يعني عودة تركيا إلى العديد من الجزر اليونانية في بحر إيجه.
إذا كان حزب «العدالة والتنمية» قد فشل في استعادة الاحتلال في الكثير من المناطق العربية وغير العربية، فإنه أعلن جهاراً أنه لن يرضى بأقل من العودة إلى حدود «الميثاق الملي». وأكثر ما طبّق الحزب هذه السياسات على سوريا والعراق؛ فبادر إلى عمليات عسكرية احتلت معظم الشمال السوري، وذكّر دائماً بأن «الموصل كانت لنا»، وانطلق بعمليات عسكرية متتالية؛ بذريعة «إرهاب» حزب العمال الكردستاني.
تمضي تركيا بسياسات التوسع القريبة والبعيدة. وكم كان الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين واضحاً، مساء الثلاثاء الماضي، في تحديد المنطلقات التي تحكم سياسة تركيا الخارجية. قال قالين: «إن من يعرفون تاريخ الجمهورية التركية يرون جيداً كيف أن أمن تركيا يبدأ مما بعد حدود الميثاق الملي». وقال قالين: إنه «إذا أرادت تركيا أن تحمي أمنها من الجهات الأربع فيجب أن توسّع خط أمنها بشكل كبير جداً؛ لذلك نحن معنيون بما يجري في سوريا وفي ليبيا والعراق والبلقان وإيران والقوقاز وأفغانستان». وإذ ينفي قالين صفة التوسع الإمبريالي على السلوك التركي، يقول: إن قوة تركيا حتمية وليست خياراً.
من هذه المواقف الجديدة - القديمة تؤكد تركيا استمرار نهجها التوسعي. فلو أن المسألة تتصل فقط بالأمن القومي التركي فما تفسير وجود قاعدة عسكرية في قطر؟ وما تفسير وجود قاعدة أخرى في الصومال والسعي الذي فشل في إيجاد موطئ قدم في السودان؟
وإذا كان توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع حكومة فايز السراج في ليبيا يدخل في نطاق حسابات مواجهة التحالف المضاد، فما تبرير إرسال جنود أتراك بشكل رسمي إلى ليبيا (في تكرار للتجربة في سوريا) التي تشهد حرباً أهلية بين حكومتي طرابلس وبنغازي؟
لم تعد خافية سياسة تركيا في محاولة تطويق خصومها، ولا سيما مصر والسعودية وها هي تتحضر لتمرير مذكرة في البرلمان التركي، تجيز إرسال قوات إلى ليبيا على غرار ما فعلته في سوريا والعراق.
إن الاعتراف المتجدد لإبراهيم قالين حول السياسات المرتبطة بحدود الميثاق الملي، يؤكد للمرة الألف أن أنقرة ممعنة في سياسات التوسع، وتهديد جيرانها، ومن هنا نفهم لماذا تحتل شمال سوريا، وتهدّد بإدلب لتبقى فيها، وتذهب إلى ليبيا وإلى حيث تيسّر لها ذلك.