الفوضى الخلّاقة.. بقلم: حسن خليل

الفوضى الخلّاقة.. بقلم: حسن خليل

تحليل وآراء

الجمعة، ٣١ يناير ٢٠٢٠

الفوضى الخلّاقة، هو مصطلح من المصطلحات التي لاقت رواجاً واسعاً في الخطاب السياسي الغربي، والأميركي تحديداً، في العقدَين المنصرمَين؛ فهو، مصطلح سياسي ــ عقدي، يُقصد به تكوّن حالة سياسية بعد مرحلة فوضى متعمّدة الإحداث، تقوم بها مجموعات معيّنة، لكن من دون الكشف عن هويتها، وذلك بهدف تعديل الأمور لمصلحتها. في مطلع عام 2005، أدلت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، بحديث صحافي إلى جريدة «واشنطن بوست»، كشفت فيه عن نية الولايات المتحدة الأميركية نشر الديموقراطية في العالم العربي، والبدء بتشكيل ما بات يُعرف بـ«الشرق الأوسط الجديد»، عبر نشر «الفوضى الخلّاقة» في بلدانه.
إذن التناقض، الشديد الوضوح، في هذا العنوان، لا يلزمه كثير تفكير لكشف مضمونه الإجرامي؛ فما باحت به رئيسة الدبلوماسية الأميركية، سارعت أدواتها في المنطقة وربيبتها إسرائيل إلى شرح مضمونه على الملأ وبشكل جليّ: ولم يكن عدوان تموز الإرهابي ضد لبنان، إلّا من آلام مخاض تلك الولادة التي بشّرتنا بها، والعدوان على غزة لم يكن، بدوره، سوى استكمال لذلك المخاض، والاثنان كانا مسبوقين باحتلال أفغانستان والعراق، لكن بواسطة الأصيل وليس الوكيل. وعليه، أصبح ذلك المصطلح عنواناً لمسار سياسي كبير حمل مسمّيات متعدّدة، أمّا مسارحه فكانت ساحات تربط جغرافيا مترامية الأبعاد، تمتدّ من حافة الكون، بالقرب من جبال الهملايا، وصولاً إلى بحر الظلمات في المحيط الأطلسي.
الفوضى كانت هي العنوان، بكل ما تحمله من مخاطر قد تطيح دولاً وشعوباً، وقد أطاحت بالفعل ببعضها. وعليه، فإنّ «نشر الديموقراطية» على الطريقة «الرايسية» قد كلّفت مئات آلاف الأرواح ودمّرت دولاً ونظماً سياسية وسلبت خيرات وفرضت هيمنة... مآسٍ كبيرة كانت من نتائج ذاك التصريح العدواني الذي جاهرت به تلك الوزيرة. وبتقويم أولي لتلك المآسي المحقّقة، بالفعل البائن والمعلن من دون أي مواربة، فإننا سنجد أن مصطلح «الخلّاقة» لم يكن إلّا التعريف الحقيقي المرادف لمصطلح «الإرهاب»؛ إرهاب الدول وإرهاب الأشخاص التي ما برحت الإمبريالية الغربية تتفنّن فيه وفي كيفية استخدامه. لم تجنِ الدول المستهدفة من تلك النظرية القاتلة إلّا المزيد من التبعية والاعتلال الميؤوس من شفائه. من هنا، وعلى أساس تلك النتائج المحققة، نرى بأن الخاسر الأكبر، بالإضافة إلى الشعوب، كانت الديموقراطية بذاتها وبكينونتها كقيمة اجتماعية، قبل أن تكون سلوكاً سياسياً، تُنعت به الدول أو تُقيّم على أساسه، أو تُفرض كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب والدول والكيانات.
لن نتوغل أكثر في شرح ما آلت إليه أحوال الشعوب الواقعة تحت مفاعيل ذلك البرنامج؛ فبنظرة واحدة يمكن تبيان نتائج تلك «الفعلة» وتأثيراتها؛ فها هي «ديموقراطية الفوضى»، المرتبطة عضوياً بتلك السياسات المعتمدة من الغرب الإمبريالي وبالتحديد الأميركي، والناتجة من «ديموقراطية الخوف»، التي وُلدت من رحم أحداث 11 أيلول والحرب على الإرهاب، قد وصلت، وبفضل تداعياتها، إلى مرحلة من الثنائية المعطّلة للعديد من أهداف المشروع وأحياناً إلى تقدّم نقيضه؛ فبين حدّي تلك المساحة المُعبّر عنها بين الاثنين، كانت هناك ثمة مواجهة تقوم، بأطر وأشكال مختلفة، تعبّر عن إرهاصات رفض لما آلت إليه الأحوال من جهة، ولتحسين شروط التموضعات الإقليمية، المرتبطة بدول، ربما لها مصالح أبعد من حدودها الذاتية، من جهة أخرى، وهذا واقع استجدّ، فارضاً شروطه وآلياته، وإن من مواقع مختلفة.
إن التناقض الحاصل اليوم في منطقتنا الشرق الأوسطية يدل بطريقة، لا مجال للشك فيها، إلى أن مفاعيل ذلك المشروع الذي بشرت بولادته تلك الوزيرة لمّا ينتهِ بعد. فالفوضى فعلاً كانت خلّاقة، في بعض جوانبها؛ لقد كانت هزيمة لمطلقيها في لبنان وفلسطين، بمعايير حجم المواجهات التي حصلت. فعدوان تموز على لبنان، لم يحقّق من أهدافه، إلّا إظهار عجز جيش الاحتلال الصهيوني وفقدان الكيان المحتل لدوره الوظيفي في المنطقة ولتآكل قدراته الردعية، وفي المقابل لتطور قدرات الردع عند المقاومة الإسلامية. وفي العدوان المتواصل على غزة، أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على الرد النوعي وعلى فرض الشروط، وظهر ذلك بوضوح في جولات متعدّدة ومتتالية. وفي ساحات مختلفة، وعلى قاعدة «ليّ الأذرع»، بانت التناقضات الجدّية بين المشروع الوافد إلى المنطقة ومصالح بعض الدول، مثل روسيا والصين، كما إيران وتركيا... وعليه، أصبحت اللعبة في الكثير من أوجهها مقلوبة بالنتائج.
لقد انقلب سحر أهداف المشروع على مُطلقيه؛ فبدل أن يكون منطلقه هو تنفيذ الظاهر من أهدافه والقاضي بإعادة تكوين المنطقة بمعايير جديدة، وبالرغم من إيغاله في العنف إلى حدّ التدمير المنهجي لبعض الدول، من خلال تهديم البنى الموجودة من سياسية واقتصادية والدفع باتّجاه قيام أشكال من نُظم مركّبة على قياس المذاهب، كحال العراق أو أفغانستان والسعي إلى ذلك في سوريا، أو على مقياس الولاء السياسي لهذا المكوّن أو ذاك بحفظ وجوده في بعض الدول، وبالرغم من نجاحه في إغراق المنطقة في دوامة من صراع شبه أهلي، مفاعيله قد تبقى ردحاً من زمن آتٍ، إلّا أن ذلك لم يلغِ أن ثمة فوضى مقابلة موجودة في صفوفه وصفوف حلفائه، وما الصورة البينية لبعض التموضعات السياسية وتبدلها، إلّا الشاهد الأكثر وضوحاً على ذلك.
إن ما يحصل اليوم في المنطقة الواقعة تحت تأثير مفاعيل ذلك المشروع، يدلّ إلى أن ثمّة وقائع يجب التوقّف عليها. حالة الفوضى السائدة انعكست على الجميع؛ فأعضاء «حلف الأطلسي» في منطقتنا يقفون على حدود تأمين مصالحهم، وإن تناقضت مع مصالح حلفائهم. تركيا، العضو في الحلف والتي تملك فيه جيشاً هو الثاني من حيث العدد، تخطب ودّ روسيا في العديد من الملفات الأساسية في المنطقة، وبتناقض واضح مع الحلف ومصالحه، ليس العسكرية وحسب، بل أيضاً الاقتصادية. العدو الصهيوني في حالة عجز بنيوي وفقدان لوظيفة أساسية كانت ملقاة على عاتقه في العديد من ملفات المنطقة. دول الخليج، وإن جمعتها سياسات شبه مشتركة وموحدة، مترافقة مع وجود القواعد الأميركية على أراضي دولها كافة، إلّا أن تناقضاتها، في العديد من الملفات، أصبحت محط استجلاب توترات جدّية في ما بينها. وليست أزمة قطر وحرب اليمن، وحياد بعض دول مجلس التعاون عنها، إلّا من الصور الأكثر تعبيراً عن ذلك الواقع.
لقد تآكل الحلف الأميركي، أو تعثر ووهنت بعض جوانبه، وما يجري اليوم من توترات وما تلاها من تهديدات بإخراج القواعد العسكرية من المنطقة، يندرج في إطار استراتيجية عمل المشروع المواجه، والمعبّر عنه بمحور مكتمل العناصر، يضم دولاً وقوى وحركات مقاومة... ينتشر على مساحة جغرافيا المنطقة.
بناء على هذا الأساس، نجد أن منطق الفوضى العامة القائمة اليوم على مسرح المنطقة يكمن في طبيعة الأحداث التي تتوالى والنتائج التي ستتمخّض عنها. إلّا أن الغائب بشكل واضح عن الرؤية السائدة لطبيعة المواجهة هو المشروع السياسي المعلن؛ فمن كلّ بد، طرح مشروع خروج القواعد الأميركية من المنطقة وإسقاط مشروع الفوضى الخلاقة، هو من بديهيات مشروع المواجهة، لكن تبقى الصورة ناقصة والمشهد غير مكتمل. مقاومة الاحتلال هي معركة تحرير وطني، وبهذا المعنى يمكن أن تكون جامعة. لكن استكمالها، يجب أن يُترجم خوض الاستحقاق الثاني، المتمثّل بمعركة التحرر الوطني، وهنا يعني، واستكمالاً للأولى، معركة فك التبعية والارتهان، وبناء الدولة الوطنية القادرة والقوية، وبهذا المعنى، يمكن أن لا تكون جامعة.
فطرح بناء الدول على قواعد تستكمل عملية التحرير من الاحتلال يجب أن تأخذ في اعتبارها مسألة الوظيفة المفترضة لتلك الدول المنشودة. لقد أورثنا الاحتلال والانتداب في منطقتنا دولاً وظيفية في إطار مشروعهما الاستعماري وبمهمتين أساسيتين: الأولى، هي تثبيت التبعية السياسية والاقتصادية للغرب، والثانية، هي منع أي أفق تحرري في التركيبة السياسية الداخلية لتلك الدول، من خلال إغراقها في نمط من العلاقات الزبائنية، ترتكز إلى تأمين المصالح المشتركة لأطرافها، وفي الوقت نفسه منع قيام أيّ بنى اقتصادية منتجة، صناعية وزراعية تحقّق الاكتفاء الذاتي، يمكن أن تشكل أساساً لبناء دول مكتملة العناصر كي تكون المعبر الحقيقي للاستقلال وفك التبعية، تحقق الاستقلال الفعلي وتستطيع مواجهة التهديدات الخارجية.
لقد شكّلت تلك الدول المبنية على تلك الأسس ونظمها المتوارثة بشكليها، الطوائف والتوارث أو النظم العسكرية، العائق الموضوعي أمام بناء موازين قوى تقوم على أساس مشاريع سياسية، وأيضاً على منع أي إمكانية لمواجهة أي أخطار خارجية أو تهديدات. وقد وصلت، وفي محطات عديدة، هذه النظم لأن تكون البوابات التي كانت تنفذ من خلالها كل تلك المشاريع، بطبيعتها واستهدافاتها، نحو الداخل. وعليه، فمن موجبات تأمين أفضل الشروط لاستكمال المواجهة، أن تقترن بازدواجية مطلوبة بين معركتّي الداخل والخارج، أي لا يمكن هزيمة أي عدوان خارجي ما لم نستهدف أدواته المحلية، وبذلك تكون المواجهة شاملة، بضمّ كل القوى المتضرّرة من تلك الحالة والمستفيدة من بناء البديل الواضح الذي يعكس مصالح أكثرية شعوب المنطقة.
إن البناء على تلك الأرضية يستوجب الإقدام على طرح معادلات أكثر ثورية وتقدماً، تحمله قوى ثورية وتغييرية، تلتقي على أرضية مشتركة مع كل من يوافق على ربط المسألتين ويعمل على ذلك. فعملية طرح التكامل الاقتصادي العربي تصبح ذات معنى ومصداقية فيما لو اقترنت بطرح موضوع كسر التبعية والإقلاع عن انتهاج سياسات تستجيب لوصفات صناديق النهب الدولية. ومسألة الحفاظ على الثروات العربية لشعوبها لا يجب أن يكون في خدمة منظومات حاكمة، مستفيدة من بنى فساد ومحسوبيات، بل لاستخدامها في عمليات تشاركية تضع حدّاً لمسائل الفقر والأمية وتمنع الاستلاب السياسي وتفك الارتهان، وبناء القدرات المشتركة، التي تصون الأرض وتحمي الموارد وتبني أسساً صلبة لاقتصاد متين، ولتشكل ركائز بناء الدولة الحديثة، القابلة للحياة، القادرة والقوية، مع أفق عربي مفتوح على التكامل. وعليه، تصبح مسألة الفوضى الخلاقة، التي أتت إلى المنطقة بهدف ضمان السيطرة للغرب الإمبريالي، فرصة مقلوبة باتجاه بناء دول حقيقية ونظم سياسية تعبر عن مصالح أكثريات شعبية في المنطقة، وعندها لن تبقى أي عاصمة عربية رهينة احتلال أو انتداب أو تهميش، ولن تبقى شعوبنا مشتتة بين مخيمات الإيواء واللجوء. فهل آن أوان المبادرة باتجاه مسار، أصبح واضحاً ومطلوباً؟