عن «الوساطة» السورية التركية وتلاشي الوهابية: أبعَدَ من تحريرِ إدلب!

عن «الوساطة» السورية التركية وتلاشي الوهابية: أبعَدَ من تحريرِ إدلب!

تحليل وآراء

الأحد، ١٦ فبراير ٢٠٢٠

في عام 2017، قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان: إن المملكة «أضاعت ثلاثينَ عاماً بالتعاطي مع أفكار مُدمرة»، يومها كان يتحدث عن الوهابية وما جرَّتهُ من تطرفٍ في اتباع النهج القويم للإسلام الحنيف. كلام ابن سلمان ترافقَ مع معلوماتٍ عن توجهاتٍ سعودية لوقف الدعم المالي عن الجمعيات الدينية التي تدعو للتطرف، قرار بدا بهدفين، الأول تصفية مصادر التمويل التي يتلقاها تنظيم الإخوان المسلمين بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، والثاني مسح الصورة السيئة التي شكلها حاملو الفكر السلفي القميء، فالمتابعون كانوا يحسبون كل المغالين على السعودية ويتجاهلون دور مشيخةِ قطر في دعمهم، لدرجةٍ بدأ فيها بعضهم يعلن اعتذارهُ ضماناً لاستمرارِ التمويل كالمجرم محمد حسان الذي أعلن يوماً شرعية الجهاد في سورية، هنا لن نقول ماذا ينفع الاعتذار ولن نتساءل عن المجرمين الذين على شاكلتهم لكنهم لم ولن يعتذروا بل سنقول:
هل إن تجفيفَ ينابيع التمويل سيفي بالغرض؟ ما دامت مستنقعات الفكر الجهادي تنتشر في عدةِ مناطق في هذا الشرقِ البائس!
منطقياً، يبدو تجفيف المستنقعات سيسيرُ بشكلٍ متوازٍ مع تجفيف المنابع، فترابط الأحداث يبدو كخارطةُ طريقٍ نحو تصفيةِ الاعتماد على ما يسمى الجهاديين وهذا الاستقراء لا يعني أبداً بأن فكرةَ الصراع المذهبي في المنطقة اندثرت، لكن لنقل ما هو أسوأ بأن الصراع المذهبي بالنسبةِ لمشغليه حقق المراد منه وبالتالي لابد من تصفيةِ أدواته تمهيداً للانتقالِ إلى المرحلةِ التالية من السلام والأمن التي يتطلبها تطبيقُ صفقةِ القرن، فالأميركيون بدؤوا الفكرة عبرَ الانفتاح على الحوار مع حركةِ طالبان الأفغانية، لكن الرأس والجسد الإرهابي اليوم يتركز في دولة واحدة هي تركيا، فهل دقت ساعةَ الحساب التركية؟
في تشرين الثاني الماضي وفي مقالٍ بعنوان: لافرنتييف في دمشق وبِنس في أنقرة: تعميق التحالفات أو ترتيب النهايات؟ قلنا بأن النظام التركي بات عبئاً حتى على الذينَ ساعدوهُ وأنقذوه، واستشهدنا بالعلم السوري الذي تم رفعه في «عين العرب» وتساءلنا: من كان يصدق؟
ربما ذات الحال تنطبق اليوم على مسار العمليات في ريفي إدلب وحلب، مع فوارقَ كبيرة بين الحدثين استندت لثلاثة معطياتٍ أساسية:
أولاً: وساطة معَ من؟
ربما يدرك المتابِع أن أموراً كثيرة قد تبدلت وتغيرت بدت معها فكرةَ التلاقي السوري التركي حولَ حلولٍ وسط لا تنتهك ثوابت القيادة السورية في ما يتعلق بالسيادة ووحدة الأراضي السورية وصولاً لرفض التمذهب باتت حلماً أو خيالاً، مع العلم أن سورية لم ترفض يوماً أي مسعى للوساطة، لكن العقل السوري الذي يدير المعركتين السياسية والعسكرية يبدو فيما يبدو وكأنه يستند لثابتة أساسية قد نلخصها بالعبارةِ التالية:
لا تحدثني عن وساطةٍ وقت الحرب، قبل أن تطرح لنا وجهةَ نظرك من الحرب!
في مفهوم العلاقات الدبلوماسية وألف باء العلوم السياسية، قد يحتاج البعض لإعادة استذكار الفرق بينَ الوسيط والنوايا الحسنة، فالوسيط عملياً كمن يضع نفسهُ على مسافةٍ واحدة بين طرفي النزاع إن جاز التعبير، الأول هو معتد ويرتكب عمليات إجرامية ويحتل أرض الآخرين ويمتلك سفارة لربيبِ «الشيطان الأكبر» على أرضه، أما الثاني فهو يدافع عن بلدهِ في وجهِ هذا المعتدي ويسعى لتحريرِ أرضهِ وهو يدفع كل ما يدفعه لأنه لن يقبلَ امتلاك سفارة لربيبِ «الشيطان الأكبر» على أرضه! هنا لا تبدو المشكلة بالوساطة ولا بالعبارات الدبلوماسية التي تلتف نظرياً حول ما يجري بطريقة كاريكاتيرية، المشكلة تبدو في مكانٍ آخر حيث آلية فهم هذا الوسيط أو ذاك لما يجري من منطلقٍ عقائدي، لا منطلق نصرة الحق والالتزام بالاتفاقات والتعهدات.
ثانياً: روسيا.. بين اللين والقسوة!
كثُرَ الحديث عن إخفاق اللقاء الذي جمعَ حقّان فيدان باللواء علي مملوك والذي تم برعايةٍ روسية قبل استعار المعارك في إدلب، لكن الأدق أن إخفاق الاجتماع جاء بسببِ عدم التزام الجانب التركي بما تم الاتفاق عليهِ بحضور الجانب الروسي، لتتحول الوعود التركية وللمرة العاشرة ربما إلى مجردِ أكاذيب، فكان القرار السوري بالردّ على اعتداءات المجموعات الإرهابية المدعومة من تركيا، وشن العملية العسكرية بدعمٍ ومساندةٍ روسيةٍ مطلقة، إلى جانبِ باقي الحلفاء على الأرض. انتظر الجانب التركي من الروس موقفاً أقرب لــ«الوسيط» والضغط باتجاهِ الحليف السوري لوقفِ المعارك، تحديداً أن ما جرى كان يشكِّل بطريقةٍ مباشرة إهانة لتعهدات رأس النظام التركي بمنعِ الجيش العربي السوري من التقدم وهو ما لم يحدث لأن من استنجدَ بهم كانوا شاهدين على كذبهِ، بل إن ما حققه الجيش العربي السوري والحلفاء من إنجازاتٍ كان أشبهَ بصفعةٍ قويةٍ أخرجته عن طورهِ، ليخرجَ بعد تحرير سراقبِ حيث كان يُراهن على استحالةِ دخول الجيش العربي السوري وحلفائهِ إليها ليقول من أوكرانيا: «تركيا لا تعترف بالسيطرة الروسية على القرم»!
حاول أردوغان اللعب بالوقت الضائع، مستفيداً من فكرةِ حشر الروس في ما يتعلق بالقضية الأوكرانية استناداً لجنون العظمة الذي حاول من خلاله اللعب بسلاحٍ خطر، حتى الأميركيين ذات أنفسهم لا يستخدمونه معَ الروس إلا عندَ الضرورة، لكن التصريح كان بالنسبةِ للروس أشبه بحدثٍ إرهابي استهدف عمق موسكو حتى ولو لم يصرحوا عن ذلك.
على هذا الأساس سارَ الروس بمسارين متماشيين، الاعتراف بأحقية ما يقوم به الجيش العربي السوري وحلفاؤه من عمليات وتحميل التركي مسؤولية ما يجري لأنه تنصل من تعهداته، ودعم العمليات الحربية، بدا الروس كمن وفوا بوعودهم فيما يتعلق بالسعي للحل السلمي لكنهم كانوا صارمين فيما يتعلق بالإخلال بالتعهدات، فكيف وان كانت هذه التعهدات تدخلاً بالشؤون الروسية الداخلية، أم إن أردوغان فاته عملياً أن القرم عادت أرضاً روسية؟!
ثالثاً: تنصل الناتو من أردوغان
في صيف عام 2012 أسقطت الدفاعات الجوية السورية مقاتلة تركية فوق اللاذقية، بدا الهدف من إرسال المقاتلة بمسارٍ محاذ للشريط الساحلي وصولاً لمنطقةِ «صليب التركمان» وما تعنيهِ هذه المنطقة من أهمية، أشبهَ بتسليمٍ بأن الجيش العربي السوري سيقوم بإسقاطها وهذا ما كان يريده أردوغان، فقد أراد جر الناتو نحو مواجهةٍ في سورية على الطريقةِ الليبية لكن هناك من رفع يومها شعار «لن نخوض معارك الآخرين». رفض الناتو يومها حسبَ الكثير من المعلومات المتقاطعة في العواصم الأوروبية، جاء بضغطٍ أوروبي وليس أميركياً، هناك في أوروبا من لا يزال يستذكر عبارة لأحد المسؤولين: تركيا الموحدة والحليفة أشد خطورة على أوروبا من روسيا الموحدة والعدوة! عبارةٌ لم يفهم يومها منظرو «سياسة صفر مشاكل» أن الغرب لا يريد الاعتراف بتركيا كقائدة للعالم الإسلامي، ولا في ذيل الدول الأوروبية، هو يريد تركيا من دون طموحات لا أكثر على الطريقة الأتاتوركية.
بذات الوقت لا يمكن فصل حادثتي إسقاط المقاتلة الروسية واغتيال السفير الروسي عن هذا السياق، فإطلاق الرصاص على السفير كانَ بمثابةِ إطلاق للنار في غرفةِ نوم أردوغان لا يمكن أن يتم من دون تخطيطٍ عالي المستوى، والأرعن الذي أدركَ إغلاق الأبواب الأوروبية في وجههِ حاول عبر توجيع الروسي اللعبَ باتجاهين: إما رد روسي ساحق سيستوجب دخول الناتو، أو احتواء روسي فيصبح أردوغان عملياً حليفاً لا مجردَ منتظرٍ للرضا الأوروبي، لكن كل هذه الحسابات لم تطابق بيادر السياسة الانتهازية التي ينتهجها، واليوم فيما يبدو يتكرر ذات الأمر، فماذا ينتظرنا؟
بالتأكيد إن ما ينظر إليه أردوغان عبرَ تساقطٍ لأدواتهِ أبعدَ من تحرير إدلب، وبمعنى آخر: سقوط إدلب وإحكام السيطرة على القرى الممتدة من الليرمون وصولاً إلى نبل والزهراء شمالاً، سيعني حُكماً أن الجيش العربي السوري ستكون وجهته القادمة ممتدة من راجو غرباً، وصولاً إلى رأس العين شرقاً، هذا الكلام يستند للمعطيات الثلاثة التي ذكرناها سابقاً، لا وساطات، صمت للناتو، تأكيد روسي بأن سورية تحارب الإرهاب وهذا حقها، عندها سيكون أردوغان أمام خيارين إما دخول الحرب علناً وليس عبر اندساس جنوده بملابس الإرهابيين، أو التسليم بالواقع الحالي، مع التذكير هنا أن نقاطه المنتشرة في سورية بسذاجة ستكون عالة عليهِ أياً كانت خياراته.
ببساطةٍ لا يمكن التنبؤ بما قد يفعله أردوغان ولا يمكن القول بأنه سيسلم بالأمر الواقع، فالمصاب بجنون العظمة توقع منهُ كل شيء، فكيف وهو لم يستطع بعد إدراكَ المتغيرات من حولهِ؟ من يُقرِئ عليهِ حكايةَ منِ استند طوال عقودٍ للسيف والدين فاستيقظ، فيما لا يزال هو يعيشُ أوهام الحلم العثماني.
إن التنبؤ بما قد تفعلهُ الأفعى التي تتلقى الضربات على رأسها، هو أشبهَ بانتظار يوم «30 شباط» لانسحاب الجيش السوري من المناطق التي حررها في إدلب تنفيذاً لتهديدات الإمعة أردوغان، بكلتا الحالتين هو منته لا محالة لأن من مثله نهايتهُ لا تعني برحيلهِ، نهايته تتجسد فقط عند انكسارهِ على الحدود السورية عاجلاً أم آجلاً.. أي عقلٍ هادئٍ ورزين هو ذاك الذي خططَ نهايتك وأوصلكَ إلى هذا المنحدر؟!