من يقول لهذا «السلطان» إن مشروعه يترنّح؟.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

من يقول لهذا «السلطان» إن مشروعه يترنّح؟.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٨ فبراير ٢٠٢٠

كثيرة هي الانغلاقات الحاصلة في قنوات السياسة التركية، ولربما أخطرها على الإطلاق انكشاف الغطاء الروسي عن محاولات شراء الوقت بانتظار حدوث تغييرات يمكن الرهان عليها سواء أكانت إقليمية أو دولية، الأمر الذي يجعل من خيارات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أضيق حالاتها، ومن الممكن هنا استحضار الكثير من تجلياتها، لكن أبرزها هو إخفاق محطتا 8 و10 شباط اللتان شهدتا اجتماعات روسية تركية بهدف إنضاج رؤية جديدة في ملف إدلب بعدما تأكد أن كل الرؤى السابقة باتت غير صالحة أو بمعنى أدق باتت فاقدة للصلاحية بعد أن أفرغتها التطورات الحاصلة على امتداد شهري كانون ثاني وشباط من محتواها، وفي الغضون كانت تقارير تشير إلى رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقاء نظيره التركي بل وعزوف الأول عن الرد على هواتف الأخير المتكررة قبل أن يصدر الكرملين بيانه في 12 من الشهر الجاري الذي ذكر فيه أن اتصالاً جرى بين الرئيسين، إلا أن البيان جاء ليعكس حالاً من المراوحة عبر لغته المكرورة التي لم تخرج عن سياقات تأكيد ثوابت التلاقيات بين البلدين القاضية بتنفيذ الاتفاقات السابقة، وهو التأكيد الذي يشير حتماً إلى اهتزاز غير مسبوق لتلك الاتفاقات ليضعها كلها محل بحث يستدعي توافقات جديدة.
لكن أكثر ما يشير إلى تلك الانغلاقات هو خطاب أردوغان الذي ألقاه أمام تجمع لحزب العدالة والتنمية في أنقرة في 12 من الشهر الجاري، أي بعد مرور ساعات قليلة على اتصاله ببوتين سابق الذكر، والخطاب الذي جاء زئبقياً عكس بشكل واضح تيه الخيارات التي لم تتوافر المعطيات الكافية لرسم توجهاتها أو السقوف التي ستذهب إليها، فالاندفاعة الروسية تبدو ماضية بهدوء نحو فرض حالة أمر واقع لا تتيح لأنقرة هوامش واسعة من المناورة، أما دخول واشنطن، ومن ورائها الناتو، مؤخراً على الخط بشكل واضح فإن أردوغان هو أكثر من يدرك أن الدعم الأميركي المتاح حالياً لأنقرة في مواجهتها الراهنة مع روسيا في سورية هو دعم سياسي وربما المعنوي بدرجة أدق، ولا يمكن بحال من الأحوال الرهان على دعم عسكري مباشر تحت أي ظرف من الظروف، ومن المؤكد أن انكفائية الناتو الحاصلة ما بعد إسقاط الأتراك لطائرة السوخوي الروسية في 24 من تشرين الثاني 2015 لا تزال حاضرة في أذهان غرف صناعة القرار السياسي التركية، وهي الانكفائية التي لعبت دوراً أكيداً في خيارات أنقرة التي قررت بعدها طرق أبواب موسكو وصولاً إلى إنضاج تقاربات معها كانت لافتة وهي غير مسبوقة منذ التحاق الأولى بالناتو مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، فكيف الأمر إذا ما استحضرت الأحداث التي تلت تلك الحادثة كم من الافتراقات وتضارب المصالح ما بين أنقرة وواشنطن، ومن خلفها الناتو، الذي شهدت هيبته شروخاً على يد الأولى من الصعب ترميمها وهي لا تقتصر على نصب منظومة إس 400 الروسية على أراضيها وإن كانت هذي الأخيرة قد مثلت الشرخ الأعمق من بين تلك الشروخ جنباً إلى جنب التقاطعات الأميركية الحاصلة مع الأكراد في الشرق السوري؟
أكثر ما يجري الآن التركيز عليه تركياً أمران اثنان، الأول هو الضغط على موسكو لتحقيق انسحاب للجيش السوري إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية الـ12 تلك التي استحدثها اتفاق سوتشي الخاص بإدلب في أيلول من العام 2018، وهو أمر تهدف أنقرة من خلاله إلى استعادة وزنها المتناقص بشكل كبير منذ بدء حملة الجيش السوري على إدلب مطلع كانون الأول الماضي، فنقاط المراقبة لا قيمة مهمة لها من الناحية العسكرية، وهي بالنتيجة ذات قيمة رمزية أو بمعنى آخر تعني ترميزاً للنفوذ التركي الذي يبقي لأنقرة حيزاً في التسوية السياسية المفترضة للأزمة السورية، والثاني هو تفعيل الصراف الذي يبيع الوقت، الذي تشير لوحته راهناً إلى أنه خارج الخدمة، في رهان على إنضاج توازنات أخرى إقليمية ودولية تتيح خلطاً للأوراق من جديد بعدما تأكد أن ترتيبها الراهن لا يصب في المصلحة التركية.
يبرز في الأمر الأول التصريح الذي أطلقه أردوغان في الخامس من الشهر الجاري والذي حدد فيه مهلة تنتهي بنهاية هذا الشهر لانسحاب الجيش السوري من المناطق التي سيطر عليها، وفي العموم من محيط نقاط المراقبة التركية، ثم تلاه تصريح لوزير دفاعه خلوصي آكار جاء بعد أربعة أيام عن الأول وفحواه إمكان لجوء أنقرة إلى الخطة «ب» أو «ج» وعلى الرغم من أن آكار لم يشرح ماذا تعنيه الخطتان إلا أن الشرح هنا لا يبدو ضرورياً، فانغلاق سراديب السياسة يعني فتحاً أكيداً لدروب العمل العسكري، لكن السؤال الأهم هنا هو: هل تستطيع أنقرة الولوج في هذه الدرب من دون غطاء روسي؟ ولعل الجواب البدهي هنا هو لا، لا تستطيع، وهو بالتأكيد جواب صحيح إلى درجة بعيدة، لكن الخيارات التركية لا تنعدم عند ذلك النفي الأكيد، وإحدى تلك الخيارات برز مؤخراً يومي 11 و14 شباط اللذان شهدا إسقاط مروحيتين للجيش السوري في ريفي إدلب وحلب على التوالي، وكلاهما حدثا بصاروخ محمول على الكتف والراجح أنه من نوع «ستينغر» الأميركي، ومن المؤكد أن أنقرة مسؤولة وبشكل مباشر عن الفعل، إذ كان أردوغان قد أعلن يوم الأربعاء الماضي، أي في منتصف الحادثتين، أن « الطائرات التي تقصف المدنيين لن تطير بحرية بعد اليوم»، والحدثان مضاف إليهما التصريح، يدخلان معركة إدلب في منعرج مهم وخطير، بل ويدخلان أنقرة في مواجهة مباشرة مع موسكو، صحيح أن ردة الفعل الروسية على إسقاط مروحية سورية لن يكون شبيهاً بردة فعلها على إسقاط مقاتلة روسية، لكن حدثاً من هذا النوع لن يكون بعيداً إذا ما قررت أنقرة تزويد الفصائل التابعة لها بكم أكبر من تلك الصواريخ، والمؤكد أن عملية التزويد سابقة الذكر سوف تخرج عن ضوابطها ومن المستحيل أن تبقى تحت السيطرة في ظل تفلت ملحوظ داخل تلك الفصائل، ثم من يضمن بقاء تلك الصورايخ بأيدي من سلمت لهم في ظل صراع محتدم على مناطق السيطرة والنفوذ في إدلب ومحيطها؟
لا يشير هذا التصعيد التركي إلى حال من القوة، وهو في الحسابات التي ينطلق منها يميل إلى تبني مفهوم المقامرة، والراجح هو أن أردوغان يبدو مدركاً جيداً لحقيقة أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتلاقيان عند مفترق سمته الأساس هي تدمير تركيا كقوة إقليمية كبرى في المنطقة، وهو التلاقي الذي لا يتوافر حتى في الحالة الإيرانية، أما إن كان يستند إلى استبعاد المواجهة مع الروس، فذاك وإن كان استناداً صحيحاً لكن الخيارات الروسية أيضاً عديدة، ويبقى احتمال وحيد هو أن أردوغان قد يجد نفسه مضطراً إلى التصعيد بسبب ضغوط الحلقة الضيقة المؤيدة له تجاه تراجعه في إدلب والاتهامات التي سيواجهها في حال لحقت بالفصائل المسلحة الموالية لأنقرة هزيمة ساحقة، وفي ذاك مقتل السياسات عندما لا يستطيع فيها صانع القرار الموازنة ما بين توازنات الداخل القائمة وبين توازنات الخارج شديدة التأثير بالأولى.
شكّل إعلان الجيش السوري مساء الأحد الماضي تأمين مدينة حلب للمرة الأولى منذ العام 2012 لتصبح أقرب خطوط التماس إلى أحياء المدينة الغربية على بعد 10 كيلومترات ضربة موجعة لأنقرة، والمؤكد هو أنه ستكون لذلك الحدث تداعيات كبيرة على مختلف الجبهات.
فمن يقول لهذا «السلطان» إن مشروعه يترنح؟