فيروس “كورونا”… من الصدام مع الطبيعة إلى “صدام الحضارات”؟

فيروس “كورونا”… من الصدام مع الطبيعة إلى “صدام الحضارات”؟

تحليل وآراء

الخميس، ٢٦ مارس ٢٠٢٠

قد لا يملك العالم اليوم جواباً كافياً عن موعد احتواء فيروس “كورونا”. لا تزال أوروبا اليوم تجسّد بؤرة جديدة لتفشّي الفيروس، فيما أبدت منظّمة الصحّة العالميّة تخوّفها من أن تصبح الولايات المتّحدة بؤرة أخرى لانتشار الجائحة المعروفة أيضاً باسم “كوفيد-19”. لكنّ غياب هذا الجواب لا يمنع طرح أسئلة عن مرحلة ما بعد الاحتواء. بحسب أحد الآراء الأكاديميّة، سيدخل العالم قريباً حقبة جديدة من “صدام الحضارات”.
 
 
 
حقبة الصدام وتحديد المنتصر
 
يحتّم “كورونا” على البشريّة صياغة نظرة مطوّرة إلى البيئة وإلى مسار التحديث الصناعيّ. ستكون الولايات المتّحدة والصين في مقدّمة الدول المعنيّة بافتتاح تلك الحقبة. لكنّها قد تكون حقبة صداميّة بامتياز. يقول الديبلوماسيّ الصينيّ السابق المتخصّص في الشؤون الأميركيّة آن غانغ: “بشكل مفارق، ومع أنّ الانتشار العالميّ لفيروس كورونا خلق فرصة نادرة لهما كي يضعا الخلافات جانباً ويتعاونا، لم يبدُ أنّ أيّ طرف مهتمّ بقبلوها.”
 
بات الصدام بين الطرفين حقيقة، لكنّه لا يرتبط فقط بالاختلاف الثقافيّ والتاريخيّ والعقيديّ. قبل تفشّي “كورونا”، كان لواشنطن وبيجينغ جولة قاسية من الحرب التجاريّة. وحتى قبل نهاية الجائحة، ظهرت بوادر جولة أشرس من الحرب الإعلاميّة. لكنّها أكبر من أن تكون حرباً فقط حول هويّة النموذج الأفضل في دحر الوباء.
 
ما يسمّيه الباحث الزائر في “معهد هيودسن” الأميركيّ برونو ماسايس “الصدام المعاصر للحضارات”، يشبه صدامات مماثلة حصلت في الماضي من حيث أنّها لم تكن مطلقاً حرب أفكار. ويضيف في مجلّة “ناشونال ريفيو” أنّه “في نهاية المطاف، المنتصرون هم أولئك الذين يتسيّدون التكنولوجيا ويحظون بنسبة أعلى من السيطرة على قوى الطبيعة. والمشهد ليس ثابتاً أو حتى مستقرّاً.”
 
يتابع ماسايس: “المعركة ستخاض فوق رمال متحرّكة بالتوازي مع بروز تحدّيات جديدة – التغيّر المناخيّ والجائحات، قبل كلّ شيء – فيما يتمّ تطوير تكنولوجيات جديدة، وفيما تجعل التغيّرات في التوزيع الدوليّ للقوى النظام الحاليّ يتآكل.”
 
 
 
كيف نسيطر على الطبيعة؟
 
بمقدار ما في “السيطرة على قوى الطبيعة” من حقيقة ملازمة لتطوّر البشريّة، هنالك تساؤلات على مدى قدرة الإنسان على الاستمرار في محاولة التحكّم بالطبيعة. فتغيير معالم البيئة وانهيار الفواصل بين الإنسان والمدى الحيويّ وسّع من مواجهته للأوبئة. والخطر قد يتزايد أيضاً مع التغيّر المناخيّ. ومع ذلك، يبدو أنّه لا مفرّ للإنسان من الوقوع تكراراً في فخّ التحكّم بقوى الطبيعة. الأوبئة الخطيرة تحتاج إلى تعزيز التكنولوجيا لمواجهتها. وتعزيز التكنولوجيا يتطلّب استهلاكاً أكبر للموارد الطبيعيّة. تبدو الحلقة المفرغة وكأنّها اكتملت. بذلك، ثمّة دوماً علاقة بين منتصر ومهزوم في الحرب بين الإنسان والطبيعة. ربّما كان الفيلسوف الألمانيّ فريديريك إنغلز أوّل من شرح ذلك سنة 1876.
 
رأى إنغلز أنّ الفارق بين الإنسان والحيوان في الطبيعة هو أنّ الأخير يدخل تغيّرات فيها من دون قصد. “أمّا الإنسان فيجعلها فيسيطر عليها عبر إخضاعها لخدمة أغراضه. وأضاف: “لكن علينا ألّا نغترّ كثيراً بانتصاراتنا البشريّة على الطبيعة. فهي تنتقم منّا عن كلّ انتصار.”
 
من بين الأمثلة التي أوردها إنغلز أنّ الناس اجتثوا الأشجار في بلاد ما بين النهرين واليونان وآسيا الصغرى ليحصلوا على أرض صالحة للزراعة، لكن لم يخطر في بالهم أنّهم حرموا تلك المناطق من مراكز تجميع الرطوبة وخزنها. كذلك، إنّ “أولئك الذين نشروا البطاطا في أوروبا لم يكونوا يعرفون أنهم، مع الدرنات النشوية، كانوا ينشرون أيضاً مرض تدرن الغدد اللمفوية (الداء الخنازيري) (Serofula)”.
 
بينما أكّد إنغلز أنّ الإنسان لا يسيطر على الطبيعة، “كما يسيطر فاتح على شعب غريب”، أشار إلى أنّ الأخير يتعلّم معرفة تدخّله النشيط في مجراها الطبيعيّ، فبات يدرك النتائج القريبة والبعيدة.
 
 
 
ملامح مستقبل سريع… وخطير
 
إنّ إدراك العالم للنتائج القريبة والبعيدة المترتّبة عن التدخّل في الطبيعة لا ينعكس بالضرورة استخداماً لمواردها بناء على هذا الإدراك. لا يظهر ذلك في صعوبات تخفيض التلوّث وحسب. بالرغم من تسبّب السوق الرطبة في ووهان بانتشار “كوفيد-19″، لن تستمرّ الصين بإغلاقها طويلاً، بسبب تشكيلها جزءاً من الاقتصاد الوطنيّ ولأنّها مخصّصة لتلبية حاجات الطبقة الوسطى وحتى طبقة الأثرياء اللتين توسّعتا بالتوازي مع النموّ الصينيّ خلال العقدين الماضيين.
 
عمليّاً، لا مفرّ من اصطدام الإنسان بنوع جديد من الأمراض والأوبئة عند كلّ تحوّل اجتماعيّ مهما كان بطيئاً أو ضئيلاً. اليوم، يبدو أنّه لا يزال أمام الإنسان مسافة طويلة لإيجاد توازن بين الربح المادّيّ السريع والربح الصحّيّ على المدى الطويل. ستتّجه الدولتان، وعلى الأرجح ستلحقها قوى أخرى، إلى تعزيز بنيتهما التحتيّة الصحّيّة والتكنولوجيّة استعداداً لمواجهة الجيوش الفيروسيّة المستقبليّة. غير أنّ الصراع حول تطوير التكنولوجيا ليس عمليّة سهلة بالنسبة إلى ماسايس.
 
يجد ماسايس أنّه لن يكون بإمكان الولايات المتّحدة إدخال تكنولوجيا ثوريّة من خلال الابتكار الفرديّ فقط. تحتاج المؤسّسات والقواعد التنظيميّة والعادات الاجتماعيّة إلى التحوّل، إضافة إلى تغيّر المشهد الاجتماعيّ برمّته للاستفادة من منافع التكنولوجيا الجديدة. بعبارة أخرى، على كامل المجتمع الأميركيّ التحرّك قدماً ككيان واحد.
 
ستسرّع بيجينغ وواشنطن معركتهما حول الأبحاث البيولوجيّة والكيميائيّة والذكاء الاصطناعيّ والحواسيب الكمّوميّة وغيرها. سبق لشركة “غوغل” أن أعلنت أواخر السنة الماضية عن تمكّن “حاسوب كموميّ” أوّليّ من إنجاز عمليّة ب 200 ثانية يحتاج أذكى كومبيتور خارق إلى 10 آلاف سنة لإنجازها. لا شكّ في أنّ الاقتصاد والصحّة سيستفيدان من “صدام الحضارات” على المستوى التكنولوجيّ. لكن هل من أثمان يدفعها البشر في مجالات الحرّيّات والخصوصيّات والأمن العسكريّ والاستقرار الدوليّ في هذه الحرب؟ بالطبع.
 
فالاستفهام ليس عن وجود الأثمان بل عن حجمها.