لم تعد وسائل تقليدية.. بقلم: علي عبيد الهاملي

لم تعد وسائل تقليدية.. بقلم: علي عبيد الهاملي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٠ أبريل ٢٠٢٠

لعل من إيجابيات انتشار وباء «كورونا» المستجد إن كان ثمة إيجابيات لأي وباء، أنه أعاد لوسائل الإعلام التي كان يطلق عليها في زمن ما قبل كورونا «وسائل تقليدية» مكانتها وهيبتها وأهميتها، فقد كانت النغمة السائدة قبل زمن «كورونا» أن هذه الوسائل، ويقصد بها الصحف والإذاعة والتلفزيون، في مرحلة موت سريري، يحتضر بعضها ببطء، وبعضها الآخر بشكل أسرع، وأن مآلها إلى الزوال خلال سنوات قليلة، حتى جاء «كورونا» فمنحها قبلة الحياة، لتصبح هي المصدر الرئيسي الأول والموثوق للأخبار الصحيحة، ويصبح ما عداها مصدراً للأخبار الملفقة والشائعات التي تنشر الخوف والشك والبلبلة، وتثير النعرات العرقية بين أفراد المجتمع.
عمّ الوباء أنحاء الكرة الأرضية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، فانطلق مراسلو الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية، يغطون أخبار انتشاره من جوانبها المختلفة، وقبع «المؤثرون» أمام شاشات هواتفهم النقالة، يندبون حظوظهم، لأن الدجاجة التي تبيض لهم ذهباً أصبحت مهددة بالنفوق إذا طال أمد الوباء، لأن المطاعم ومحلات بيع العطور والملابس والصالونات التي يروجون لها أغلقت بقرارات رسمية، ولم تعد تعمل سوى الصيدليات ومنافذ بيع الطعام، التي لا تحتاج إلى دعاية لتزاحم الناس عليها.
انتقل الصحافيون ومراسلو القنوات الإذاعية والتلفزيونية إلى المستشفيات والمراكز الطبية وأماكن حجز المرضى والمطارات، يتابعون أخبار هذا الوباء شديد العدوى، ساعين إلى تقديم أفضل ما لديهم، ليطلعوا جمهورهم على مستجدات الوباء وآخر أخباره.
عاد الوهج إلى شاشات التلفزيون التي قال «المؤثرون» إنها في طريقها إلى المستودعات والمتاحف، وتصدرت الصحف بتحليلاتها ومتابعاتها مصادر المعلومات بعد أن قال أكثر الدارسين تفاؤلاً إنها في طريقها إلى الاختفاء خلال سنوات قليلة، تحول بعضها إلى الفضاء الإلكتروني بشكل كامل، واحتفظ بعضها الآخر بالورقي إلى جانب الإلكتروني، وعادت ميكروفونات الإذاعات تتلقى اتصالات جماهيرها، وتنقل لهم الأخبار غير المغلوطة، بينما انتشر فيروس الشائعات بين منصات التواصل الاجتماعي، وأخذت هذه المنصات تلعب دوراً كبيراً في زعزعة ثقة الناس بالإجراءات، التي تتخذها السلطات المختصة لمحاصرة الوباء، والحد من انتشاره.
كان المؤثرون قبل «كورونا» يؤكدون أن المسألة محسومة لصالحهم، ويراهنون على عامل الوقت الكفيل بإزاحة الوسائل التي يسمونها «تقليدية» من المشهد تماماً، فإذا بجائحة «كورونا» تطيح أمنياتهم وأحلامهم، وإذا بوسائل الإعلام التي يسمونها «تقليدية» تتصدر المشهد، وتصبح المصدر الموثوق والأوحد لأخبار تطور الجائحة، وانتقالها من مرحلة إلى مرحلة، وإذا بالذين كانوا متصدرين قبل الجائحة يغدون متابعين لما تبثه وتنشره هذه الوسائل من تقارير وأخبار ومتابعات وتحليلات، ينقلونه عبر منصاتهم إلى الجمهور الذي بدأ يفقد ثقته بما تنشره هذه المنصات ما لم يكن صادراً عن جهات رسمية أو منقولاً من وسائل إعلام محترمة وموثوقة، تعمل بمهنية عالية، تحترم الجمهور الذي تخاطبه، ولا تسعى إلى زيادة عدد جمهورها ومتابعيها بوسائل تتعارض مع الشفافية والمصداقية.
ليس هذا قدحاً في وسائط التواصل الاجتماعي، ولا في المؤثرين الذي يتربعون على منصاتها، ويستحوذون على إعجاب جمهورها، فهناك من هو ملتزم بالأخلاقيات التي يجب أن يتصف بها مستخدمو هذه الوسائط التي أصبحت مهنة تدر على أصحابها أضعاف ما يتقاضاه العاملون في الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية، وتمنح المحظوظين من مشاهيرها نجومية، يحتاج العاملون في الوسائل التي يسمونها «تقليدية» سنوات ضوئية كي يصلوا إليها مع الالتزام بالشروط المهنية التي تضعها وسائلهم، وأولها المصداقية واحترام عقلية المتلقي، والالتزام بالقيم الأخلاقية للمجتمعات التي ينطلقون منها وينتمون إليها.
لقد غير وباء «كورونا» المستجد الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة قبل ظهوره وانتشاره، كأنى به رسالة تقول لنا إننا كنا سائرين في اتجاه خطأ سيقودنا إلى مخاطر أكبر من الوباء نفسه. ينطبق هذا على سياساتنا الاقتصادية، وخططنا التنموية وتوجهاتنا، كما ينطبق على مفاهيمنا الأخلاقية والقيم التي نؤمن بها.
ولهذا نعتقد أننا بحاجة إلى إعادة النظر في الكثير من أولوياتنا وخططنا المستقبلية الآن، وليس بعد أن تنحسر الجائحة، لأن الإنسان، مثلما وصفه الخالق العظيم في محكم كتابه، خُلِق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً.
هذه الطبيعة البشرية ستجعله عندما تنحسر الجائحة ينسى سريعاً الهلع الذي كان فيه، ويعود إلى ما كان عليه وأكثر، والشواهد على هذا كثيرة، نستطيع أن نطّلع على الكثير منها عبر تاريخ البشرية الممتد منذ آلاف السنين.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن جائحة «كورونا» أعادت إلى وسائل الإعلام التي يسمونها «تقليدية» الاعتبار، وجعلت الناس مشدودة إليها، وهي تمحص لهم ما تمتليء به هواتفهم النقالة من أخبار أغلبها غير صحيح، وأثبتت أنها ليست «تقليدية» كما يزعمون.