أزمة «السنوات العشرين».. بقلم: أحمد حسان عرنوس

أزمة «السنوات العشرين».. بقلم: أحمد حسان عرنوس

تحليل وآراء

الجمعة، ١٢ يونيو ٢٠٢٠

في أواخر الثلاثينيات، أنهى الدبلوماسي والباحث البريطاني إدوارد هاليت كار كتابة بحثه «أزمة العشرين سنة: 1919 ـــ 1939»، والذي يعدّ أحد أكثر الكتب أهمية في مجال العلاقات الدولية، ولا يزال يقرؤه على نطاق واسع معظم محلّلي الجغرافيا السياسية المعاصرة، يناقش العمل ـــ وهو المنشور بشكل مصيري قبل بضعة أسابيع من اندلاع الحرب العالمية الثانية ـــ الحماقة النهائية للتفكير الطوباوي في ما يتعلّق بالتوقّعات العظيمة المرتبطة بالآفاق العامة للسلام الدائم والازدهار والتعاون بين الدول الوطنية. فمن منظور متشائم من الناحية الإنتروبولوجية (بما يتفق مع أفكار الواقعيين الكلاسيكيين مثل ثيوسيدس وهوبز وتشانكيا ومكيافيلي) أشار إدوارد كار إلى أنّ الإيمان بصلاح الطبيعة البشرية كان بدعة حديثة وخطيرة، فقد كان العالم في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية يشهد ظواهر مثل الاضطراب الاقتصادي الواسع الانتشار، والانهيار المالي الكبير، وصعود كلّ من الفاشية والشيوعية والنازية، وزيادة التوتّرات الجيوسياسية النظامية، وانتشار العسكرة في أوروبا وآسيا، فضلاً عن التحريض الاجتماعي والسياسي في دول عديدة، في حين أصبحت عصبة الأمم عديمة الجدوى، وبعيدة جداً عن تحقيق السلام. كل ذلك يوحي بفترة مشابهة لأزمة العشرين سنة الجديدة 2000 ـــ 2020.
حقبة ما بعد الحرب الباردة فترة من التفاؤل المضلل
بشّرت نهاية الحرب الباردة بفترة من الانتصار الفكري المتفشّي، ويعتقد المفكّرون والمنظّرون الذين نشروا ما يُسمى «نهاية التاريخ» بأن الديموقراطية الليبرالية على الطراز الغربي والأسواق الحرّة، ستصل إلى جميع أنحاء العالم، وهو أمر من شأنه أن يغذّي موجة غير مسبوقة من الازدهار والحرية. بناءً على ذلك، من المفترض أن يتمّ استبدال التنافسات الجيوسياسية العدائية بالمنافسة الاقتصادية السلمية. حتى وكالات الاستخبارات ناقشت إعادة تعريف التهديدات الجديدة وإعادة تركيز أولوياتها، واعتبرت قضايا مثل النزاعات المحلية والدول الفاشلة وتغيّر المناخ مشكلات يمكن معالجتها بشكل عملي، من خلال التعاون والدبلوماسية المتعدّدة الأطراف.
ازدهرت الروح الدولية الليبرالية المضلّلة، خلال التسعينيات التي شكل تأثيرها أحداثاً دراماتيكية نتيجةً لانهيار جيوسياسي للاتحاد السوفياتي ونهاية القطبية الثنائية في النظام الدولي، ومن هذه الأحداث: إعادة توحيد ألمانيا، التأسيس الرسمي للاتحاد الأوروبي، إدخال اليورو كأول عملة عصرية فوق وطنية، إنشاء «نافتا»، توسيع السلاسل اللوجستية عبر الوطنية، الظروف المواتية للحركة غير المقيدة نسبياً لرأس المال والسلع والأشخاص، السعي إلى حلّ دبلوماسي نهائي للصراع العربي ـــ الإسرائيلي، خلال مؤتمر مدريد لـ«السلام» عام 1991، مناقشات نظرية حول الحاجة إلى توسيع مفهوم «حقوق الإنسان»...
في تلك الفترة من التفاؤل المضلّل، أرادت تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكانت روسيا حريصة على احتضان الغرب بعد عقود من العداء المتبادل، واعتُبر الصعود الاقتصادي للصين بمثابة تطوّر سلمي من شأنه أن يوفّر فرصاً جذابة للأعمال والتجارة والاستثمار، وفي صنع السياسات والأوساط الأكاديمية. تم تصوير هذه الفترة على أنها تحديث جيوسياسي جديد، والتشكيك في آفاقها على المدى الطويل قوبل بسخرية واستهزاء، وهكذا تم وصف «العولمة الليبرالية» بأنها «ميزة دولية لا رجعة فيها».
التوترات الجيوسياسية النظامية خلال عشرين سنة 2000 ـــ 2020
على الرغم من جوّ الحماس الذي ظهر في أواخر التسعينيات، جاء التوتر الأول مع هجمات 11/09/2011 الإرهابية، وتعرّضت أقوى دولة لهجوم من قبل «القاعدة»، وفي نهاية المطاف أدّى ردّ واشنطن إلى غزو كلّ من أفغانستان في عام 2001، والعراق في عام 2003، إلى تعقيد التوازنات الجيوسياسية في النظام الدولي. والآن، بعد عقود، لم يهدأ الوضع في أفغانستان والعراق، ولا يزال خطر عدم الاستقرار الجيوسياسي نشط جداً، وتنظيم «داعش» الذي ظهر بقوة منذ عام 2014 في سوريا والعراق دليل قوي على ذلك. هذا فضلاً عمّا يجري حالياً من إعادة تنشيط لخلايا «داعش» في الفترة الحالية من عام 2020.
بالنسبة إلى الكارثة الرئيسية الثانية، فهي الأزمة المالية العالمية التي حدثت 2008 ـــ 2009، وقد ولّدت الفوضى والركود والبطالة وعدم الاستقرار وأزمة ائتمانية هائلة. وعلى الرغم من تنفيذ تدابير غير تقليدية للتغلّب عليها، إلّا أنّ أوجه القصور الهيكلية الأساسية لا تزال قائمة، بما في ذلك تراكم الديون غير القابلة للدفع. وبالرغم من ذلك، تمّ الحفاظ على الهيمنة النقدية للدولار الأميركي، وذلك من خلال علاقته التكافلية بالقوة العسكرية الأميركية وتفوّقها في أسواق السلع الأساسية، وبعبارة أخرى تم دعمه من قِبل كلّ من الرصاص والنفط.
في المستقبل المنظور، إن مصداقية الأموال الورقية المغطاة بالدولار ستكون على المدى الطويل معرضةً للخطر، وليس من المستغرَب أن العديد من الدول تستعدّ لإنشاء قنوات لتجاوز الدوائر المالية الأميركية. وإذا أمكن ذلك، سيتمّ إنشاء نظام نقدي موازٍ خارج سيطرة واشنطن و«ووال ستريت»، وهكذا يمكن إعادة تصميم البنية المالية للعالم، ولكن من غير المعروف في هذه المرحلة مدى سلاسة العملية. ويجب أن نوضح قضية في غاية الأهمية، وهي أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الجغرافيا السياسية والتمويل، ففي الوقت الراهن يكشف تقرير «الاتجاهات العالمية لعام 2030» الانتقال المعقول من الهيمنة النقدية الحالية للدولار، نحو نظام مالي عالمي متعدّد الأقطاب. ومن جانب آخر، رعى «البنتاغون» تنظيم ألعاب الحرب، من أجل دراسة كيف يمكن أن ينشأ صراع جيوسياسي في مسرح العمليات المالية. أما في روسيا، فتنص «استراتيجية الأمن القومي لعام 2020»، على أنّه يجب اعتبار الاضطرابات المالية بمثابة تهديدات كبيرة، ويمكن أن تكون عواقبها مماثلة لتلك التي تحدثها الضربات العسكرية التقليدية واسعة النطاق، كما ناقش الاستراتيجيون العسكريون الصينيون في كتاباتهم «الإمكانات التدميرية الفتاكة للحرب المالية».
أما بالنسبة إلى التوترات الجيوسياسية بالنسبة إلى أوروبا، فقد اكتسب مشروع التكامل الأوروبي الكثير من الجذب في البداية، وحتى الاتّحاد الأوروبي دمج أعضاء «حلف وارسو» السابق ودول البلطيق التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفيتي. مع ذلك، سرعان ما أصبحت قيودها واضحة في المصالح والاحتياجات والضرورات المتباينة والملامح الاقتصادية والخلفية الثقافية للدول الأعضاء، لقد أصبح من الصعب سدّ الفجوات بشكل متزايد، وقد ثبت أنّ إيجاد إجماع جوهري بعيد المنال، وبدون المظلّة النووية لـ«حلف شمال الأطلسي» ـــ المقدمة من البنتاغون ـــ فإنّ أوروبا ليست لديها سياسة دفاعية موحّدة، ولا يمكنها حتى التوصل إلى اتفاق بشأن تحديد التهديدات. بالإضافة إلى ذلك، غُمرت المجتمعات الأوروبية بموجات الهجرة غير النظامية، والتي كانت احتمالات استيعابها ضعيفة في أحسن الأحوال.
لقد أثبت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأنه ليس هناك أملٌ في استمرار التكامل، والآن بات مصير الاتحاد الأوروبي ككيان، واليورو كعملة معرّض للخطر، بسبب كل ما تراكم من اختلالات هيكلية، وأخيراً التأثير المزعزع للاستقرار الذي أحدثه وباء «كورونا» في مجتمعات أوروبية عدّة.
في ما يتعلق بالصين، والتي كان صعودها سلمياً بمعنى أنها لم تطلق العنان للمواجهة العسكرية المباشرة، فإنّ ذلك لا يعني أنّ التوترات لم تختمر بعد، وإنّ الهند واليابان، والأهم من ذلك الولايات المتحدة الأميركية، قد أثاروا العديد من التحفّظات حول القوة الوطنية الصينية المتزايدة في مجالات القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والنفوذ المالي والتأثير الثقافي والامتداد الدبلوماسي والتطوّر التكنولوجي. وفي ما يتعلق بالاستراتيجية الكبرى، يبدو أنّ الصين تنوي تحدي الهيمنة الأميركية، أو على الأقل أن تضع نفسها على أنها حجر الزاوية في كتلة موازية. ولذلك، يمكن أن تتجه كلتا القوتين بسرعة نحو «فخ ثيوسيديدس» الذي يحتمل أن يكون متفجراً في المستقبل.
في ما يتعلق بالفضاء ما بعد السوفياتي، لم تنضم روسيا إلى الغرب، أو تتبع خططها في ما يتعلق بالنموذج السياسي للديموقراطية الليبرالية أو الوصفة الاقتصادية للأسواق الحرة، وبدلاً من ذلك تحاول موسكو إعادة تأكيد قوتها الوطنية واستعادة نفوذها في الخارج القريب، كما أظهر الكرملين تأثيره الجيوسياسي في مناطق أخرى أيضاً. حتى أن روسيا تمكّنت من تسليح إمدادات الطاقة كأداة جيو ـــ اقتصادية، في ظلّ حقيقة أخرى واضحة هي رغبة موسكو وقدرتها على استخدام القوة العسكرية، بشكل مباشر، في جورجيا عام 2008 وسوريا عام 2015، وبشكل غير مباشر في أوكرانيا عام 2014، وليبيا عام 2019.
بالنسبة إلى الشرق الأوسط، يمكن القول إن ما يسمى بـ«حلّ الدولتين» قد مات في عام 2020، وإنّ صعود قوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها من محور المقاومة في كل من العراق، سوريا، لبنان واليمن، قد جعل دول «مجلس التعاون الخليجي» وإسرائيل شركاء واضحين (ممارسات التطبيع العلنية الحالية والمستقبلية مع الكيان الإسرائيلي دليل على ذلك). وقد كان قاسمهم المشترك هو الحتمية الجيوسياسية للصراع الأساسي بين تيار المقاومة بقيادة طهران، وتيار التطبيع الذي تقوده بشكل أساسي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فالتطبيع الجاري ما هو إلّا طريق للوصول إلى عتبة تطبيق ما يسمى «صفقة القرن»، وضمّ الضفّة والأغوار، الأمر الذي سيؤدي إلى كارثة جيوسياسية نظامية جديدة غير واضحة المعالم.
كنتيجة طبيعية تشاؤمية لهذه الفترة، فإنّ التوسّع العالمي السريع لتفشي وباء «كورونا» الحالي يهدّد بإرباك عدد لا يحصى من أنظمة الرعاية الصحية الوطنية، كما يهدّد الديناميكية الاقتصادية والاستقرار المالي. وعندما يتعلّق الأمر بالتعامل مع هذا التهديد غير التقليدي، فإنّ كل مجتمع يحدّد أولوياته بناءً على ظروفه وموارده ومصالحه. وبدلاً من «قرية عالمية» أو «مجتمع دولي»، فإنّ ما يشهده العالم يشبه الحالة «الهوبزية»، حيث يسود الشك والقلق والخوف من الآخر، وتسيطر فكرة النزعة الأنانية والمناقضة لفكرة العمل الجماعي والتضامن الاجتماعي. وفي هذه الدراما الجيوسياسية، تؤدّي بعض الدول الوطنية أداءً أفضل من غيرها، وتزدهر بعض المجتمعات بمجرّد أن تتمكّن من التغلّب على تحديات كبيرة وتتلاشى مجتمعات أخرى ببساطة إلى النسيان. وبعبارة جيوبولوتيكية، إذا تصوّر المرء الدولة ككائن حي، فإنّ وجودها يتشكّل من خلال قانون الانتقاء الطبيعي، فإذا كانت غير قادرة على التكيّف مع الظروف المحيطة المتغيرة يصبح وجودها في خطر. وفي ظل ظروف الفوضى النظامية العميقة والخطر والندرة وعدم اليقين، لا تستطيع المجتمعات تحمّل تفويض بقائها أو الاعتماد على لطف الآخرين، وبعبارة نهائية: «إذا لم يلبّوا احتياجاتهم الحيوية يموتون، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أي دولة».
* باحث ماجستير في العلاقات الدولية، جامعة دمشق