حرب التكنولوجيا.. بقلم:  د.يوسف الشريف

حرب التكنولوجيا.. بقلم: د.يوسف الشريف

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٢ أغسطس ٢٠٢٠

تتغير أنواع الحروب وتُستحدث أنواع جديدة من حين لآخر، وربما سمعنا مراراً عن الحروب التكنولوجية، وتنبؤاتٍ بشأن مستقبلها، لكننا لم نشاهدها على أرض الواقع بشكل كبير لكون القوة التكنولوجية كانت بيد طرف واحد؛ هناك في «وادي السيليكون» في الولايات المتحدة الأمريكية، التي ظلت لسنواتٍ رائدةً في هذا المجال، وهي من تقود تطوراته، وشركاتها هي الشركات الراعية للتطور التكنولوجي حول العالم، لذلك لم تكن الحرب على التكنولوجيا لها قطب آخر لتبدأ مناوراتها وسياساتها وأسلحتها، لكن اليوم بات الأمر مغايراً مع دخول الصين على هذا الخط، وامتلاكها شركات عالمية تنافس واحة السيليكون في تطوير التكنولوجيا العالمية.
منذ سنوات ونحن نشاهد الهجوم الأمريكي على شركة «هواوي» الصينية للحد من سرعة انتشارها في العالم، ولعل هذه الشركة، أكبر طرف في الحرب التكنولوجية بين أمريكا والصين، وبمعنى أدق فإن «هواوي في وجه المدفع» في حرب تكسير للعظام على من يمتلك تكنولوجيا المستقبل.
فرغم الضغوطات الكبيرة التي تمارس ضد «هواوي» فإنها قبل أسابيع قليلة أزاحت الجميع من أمامها، وأصبحت مبيعاتها من أكثر مبيعات شركات الهواتف في العالم، ليس هذا فحسب، وإنما السرعة الكبيرة في امتلاك تكنولوجيا الجيل الخامس، والتي تدور حولها جميع مقومات العصر القادم من سيارات ذاتية القيادة وإنترنت الأشياء وغيرها من التطبيقات التكنولوجية، ولهذا تحاول الولايات المتحدة بكامل قوتها أن يكون لها مكانة في هذا المستقبل، ولم تتخيل يوماً «واحة السيليكون» أن يأتي الجيل الجديد من الاتصالات من خارجها.
قبل أيام قليلة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحرب على شركة صينية جديدة وهي شركة «بايت دانس» المالكة لتطبيق «تيك توك» للمقاطع المصورة القصيرة، وهي الشبكة الوحيدة غير الأمريكية في عالم وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها مئات الملايين من المستخدمين حول العالم، وتنتشر بسرعة كبيرة جداً تفوق نظيراتها من الوسائل الأخرى، وقد أعطى ترامب، مهلة 45 يوماً لإتمام صفقة استحواذ «مايكروسوفت» على تطبيق «تيك توك» في صفقة معقدة متشعبة في حرب التكنولوجيا التي نشهدها بين أمريكا والصين.
هذه الحرب التكنولوجية لن تنتهي عند هذا الحد، وربما تتطور لتأخذ أشكالاً مغايرة من الحروب، وقد تؤدي لحروب تجارية بين البلدين أو حتى حروب عسكرية إذا ما وجدت كلتا الدولتين إطاراً لهذا التنافس لتمتلك تكنولوجيا المستقبل.
وقد يتساءل البعض عن جدية تحريك دولة لأسطولها العسكري من أجل شركة من شركاتها، وأجيب أنه شيءٌ محتمل وممكن، فالمسألة ليست شركة فقط، وإنما لها اعتبارات أخرى كثيرة، وبالنسبة للصين فشركة «هواوي» ليست مجرد شركة صينية، إنما هي التي فتحت الأبواب للشركات الصينية لتصبح رائدة عالمياً، وهي التي وجهت أنظار الشركات الصينية على العالم الخارجي، ولن تقبل الصين لأي دولة أن تطيح بهذا النموذج.
التكنولوجيا ليست حكراً على أحد، هذا ما تقوله جميع التعريفات العالمية لمبدأ السوق الحر الذي دافعت عنه أمريكا طوال السنوات الماضية، وهو العمود الذي تقوم عليه الرأسمالية، ولكن عندما تتدخل المصالح وتتضارب فيما بينها، سيتخلى أي عراب عن فكرته ومبدأه بسهولة، ولهذا لا تتوقعوا أن تتخلى أمريكا عن مصالحها مقابل مبدأ قامت عليه وحكمت العالم بفضله، ولكن لهذا التخلي ارتدادات كثيرة أهمها: خسارة أمريكا لتنافسيتها أمام المستثمرين الذين وجدوا فيها النظام الحر الذي يستطيع حماية مصالحهم ويشركهم في دائرة التنافس العالمي، ولكن مع هذه الأحداث ستتغير الكثير من الأمور، خصوصاً أن دولاً كثيرةً حول العالم تريد أن تدخل عالم التكنولوجيا ويكون لها حضورٌ عالمي في هذا الجانب، ولن تستطيع أمريكا أن تحارب على جميع الجبهات.
المستقبل لمن يمتلك التكنولوجيا، هذه هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة في هذه الحرب، وستشهد السنوات المقبلة المزيد من الصراعات بين الحكومات والشركات، وبين الشركات نفسها أيضاً، فالتكنولوجيا مربحةٌ كثيراً ويمكن اعتبارها باباً مستداماً للاقتصاد، وهذا أحد أهم الأسباب التي تجعل الجميع يتنافس ليحقق استدامةً لاقتصاده ومكانته العالمية، والحرب عليها سيكون شرسة في قادم السنوات، و«واحة السيليكون» لن تبقى هي الوحيدة التي تنتج التكنولوجيا، وستتغير خارطة القوى التكنولوجية لصالح دول ناشئة تطمح بأن ترتقي بقطاعاتها، ومن يرد أن يضع قدمه في المستقبل، عليه أن يطلق مشاريع ليحتضن الشركات الحالمة ويوفر لها بيئةً مناسبةً لممارسة نشاطها، وبشرط أن يوفر لها الحماية في حروب التكنولوجيا المقبلة بجميع أشكالها.