أميركا، ترامب والصين.. بقلم: لويس حبيقة

أميركا، ترامب والصين.. بقلم: لويس حبيقة

تحليل وآراء

الجمعة، ٤ سبتمبر ٢٠٢٠

يتغيّر الاقتصاد العالمي بسرعة بسبب التطورات الميدانية والمواقف الحادة ليس فقط من قبل أميركا وانما أيضا من بقية القوى الأساسية. في أميركا يتابع الرئيس ترامب تعليقاته الانعزالية ليس فقط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وانما أيضا في الاعلام المباشر قبل الانتخابات المقررة في 3/11/2020. يحاول وضع الشكوك تجاه التصويت عبر البريد، وهذا ما كان يحصل في كل الانتخابات السابقة. التصويت عبر البريد مهم جدا هذه المرة بسبب الكورونا المتفشية. طبعا لو كان مرتاحا في المنافسة ضد المرشح الديموقراطي جو بايدن، لما طرح الشكوك نفسها حتى لو كانت مبررة. التركيز على «أميركا أولا» في ظروف يعاني العالم خلالها من مشاكل مشتركة في الصحة وغيرها يشير الى انعزالية كبيرة في التفكير لا يمكن الدفاع عنها.
أميركا بنت نفسها كقوة كبرى بفضل الهجرة والمنافسة والتواصل وعبر اعطاء فرص النجاح للجميع. المدهش في الاحصائيات الأميركية الحالية كما في تلك التي حصلت قبل انتخابات 2016 أن من يود الاقتراع لدونالد ترامب لا يعلن ذلك في الجواب الاحصائي ربما خوفا أو غضبا أو للرغبة في المفاجأة. كما كانت الاحصائيات خاطئة في 2016، من الممكن أن تكون كذلك في 2020. في أميركا المواقف والحريات، لا يعبّر مواطنوها اليوم عن أفكارهم الديموقراطية وحقوقهم وخياراتهم علنا كما كان يحدث في العقود والقرون السابقة. أميركا تغيرت فعلا وهذا مؤسف.
أميركا تريد الاهتمام بنفسها وهذا حق لها، لذا فسحت المجال مثلا لفرنسا بلعب دور أكبر في المنطقة بدأ من لبنان الى كافة الدول. أميركا تريد سحب جيوشها من أماكن النزاع لتخفيض انفاقها العسكري وهذا أيضا حق لها. هنالك تغيير كبير ليس فقط في السياسات الأميركية، وانما في التفكير الأميركي الاستراتيجي وهذا في غاية الأهمية والخطورة. خسارة الرئيس ترامب في الانتخابات المقبلة صعبة، لأنها اذا حصلت ستشير الى تغيير في التفكير الاستراتيجي الأميركي غير واضح اليوم. انتصار جو بايدن في الانتخابات لن يكون بفضل الجهد الانتخابي والاعلاني والاعلامي العادي، وانما بسبب تغيير في التفكير الاستراتيجي الأميركي. الانتخابات القادمة هي ليست استفتاء على حكم ترامب، وانما استفتاء تجاه الانعزال والرغبة في الاستمرار به لأربع سنوات قادمة. في كل حال فوز ترامب في ولاية ثانية سيزيد التغيير في أميركا بشكل كبير وربما لن يسمح مستقبلا بالرجوع الى الوراء أي الى أيام كينيدي وبوش وغيرهما.
عدائية الرئيس ترامب تجاه المؤسسات الدولية تقلق، اذ ما هو البديل لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الدولي. بنيت هذه المؤسسات عبر جهود كبيرة من الدول الكبرى، وان لم تنجح كما يجب فلم تكن سيئة خاصة وأن البديل غير متوافر. الانتقال من نفوذ المؤسسات الدولية الى شريعة الغاب الاقتصادية خطير وسيضعف النمو الاقتصادي العالمي كما يغير الخريطة الاقتصادية. ما هو مثلا مستقبل قطاع النقل؟ ما هو مستقبل السياحة الدولية؟ في باريس اليوم 50% من الفنادق مقفلة لغياب السواح. هنالك قطاعات ستزول أو تحجم ولن يكون الواقع الجديد الا انتقاليا. العالم الجديد يحتاج الى رؤية مناسبة غير موجودة اليوم. الموجود هو التخبط والضياع وهذا لا يبني اقتصادات فاعلة وشفافة.
لا يؤمن ترامب بمؤسسات بريتون وودز ولا بمنظمة الصحة العالمية ولا يعطي أهمية للأمم المتحدة. خطورة الموضوع لا تكمن في عقيدته وتفكيره وادائه، وانما في أنه يعكس التفكير الشعبي الأميركي المتغير منذ عشر سنوات أو أكثر. لذا فوزه بولاية ثانية يعني عمليا استمرار التفكير نفسه المدعوم شعبيا بمجموعات قوية متجانسة عرقيا لا تظهر قوتها الى العلن. تقترع هذه المجموعات بصمت لمن يعبر عن تفكيرها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتجارة والهجرة والعلاقات الدولية المختلفة. خطورة هذا التفكير انه يؤدي حكما الى نوع من الفوضى المتزايدة في العلاقات الدولية في غياب مرجعيات قوية تحوذ على احترام الدول وخاصة القوية كالصين وروسيا والمجموعة الأوروبية.
عدائية أميركا للمؤسسات الدولية واضحة كما العداء للاتفاقيات الدولية واضحة أيضا. عداء الصين لهذه الاتفاقيات والمؤسسات ليس علنيا بل يمارس في الواقع عبر السياسات المباشرة التوسعية أي الاستثمارات والقروض وفي توسيع العلاقات الاقتصادية. تستثمر الصين في الدول النامية عبر البنية التحتية مما يساهم في رأيها في تنشيط التجارة والتبادل في السلع والخدمات ورؤوس الأموال. ينتج عن هذه الحركة ارتفاع في مؤشرات النمو العالمية وبالتالي يربط عدد كبير من الدول بالمارد الصيني خاصة وأن التمويل يتم عبر قروض ميسرة. من المشاكل الظاهرة حاليا وبسبب الكورونا، لا تستطيع هذه الدول تسديد قروضها الى الصين وبالتالي هنالك مشاريع ألغيت وأخرى توقفت كما حصل مع مصر وبنغلادش وباكستان وتانزانيا وغيرها. تقع كل هذه المشاكل في وقت تعاني الصين نفسها من ضعف في النمو ومن مشاكل سياسية داخلية وخارجية أي في هونغ كونغ ومع تايوان وغيرها. الرئيس الصيني طموح جدا والامتداد الاقتصادي هو جزء أساسي من سياسته الخارجية وقد أدخل في سنة 2017 مبادئها في الدستور الصيني مما يشير الى نفوذه القوي داخل الحزب الشيوعي وفي الادارات الصينية المختلفة.
لا يعاني العالم فقط من تخبط السياسات الأميركية والصينية، بل هنالك الكورونا. محاربتها تأخذ أبعادا كبيرة، اذ على ما يبدو لنا ليس هنالك اتفاق حول طرق المواجهة. هنالك الآلاف من الحلقات التلفزيونية التي تحلل وتفسر الوباء، والاستنتاجات التي يمكن استخلاصها هي انه لا يوجد لقاح ولا دواء بل هنالك 3 طرق لتجنب الوباء وهي التباعد واعتماد الكمامة وغسيل اليدين. هذا ليس صعبا، لكنه يوتر الأعصاب ويؤثر سلبا على الاقتصاد. غياب المعلومات الاكيدة والسريعة والكاملة والصحيحة هي أكبر عدو للتقدم الاقتصادي. كيف يمكن أن نحلم بمجتمعات عادية وطبيعية بوجود وباء خطير مجهول الصفات بالرغم من التقدم الطبي الكبير؟
الخريطة العالمية تتغير اليوم ضد العولمة والتواصل والعلاقات الانسانية العميقة. الوحدة الأوروبية نفسها هي وليدة العولمة، فهل تستمر في ظل التباعد والشعور العرقي والطائفي والمذهبي العنفي العالمي؟ هل كل هذا الشعور السلبي الانغلاقي سببه توسع فجوة الدخل والثروة التي سببتها العولمة؟ ما هي أسباب هذا الانحدار التفكيري بالرغم من تقدم العلوم الانسانية والاجتماعية خلال عقود طويلة من البحوث والمحاضرات والتطوير؟ هل تم كل هذا التقدم العلمي في ظروف اقفال للعقل والأذن؟ ما هي نتائج هذا التغيير الكبير على صعيد العالم أجمع؟ للأسف وصول وربما بقاء ترامب في السلطة هو نتيجة وليس مسبب للتدهور العالمي الحاصل وهذا مقلق وفي غاية الخطورة.
هنالك دول تستطيع أن تساهم أكثر عالميا، لكنها تفضل البقاء جانبا ليس فقط خوفا وانما قلقا على مستقبل مواطنيها كاليابان. الدولة القوية التي تنقصها فقط الزيادات السكانية في وقت تعاني أكثرية العالم من زيادات سكانية تثقل كاهل اقتصاداتها. اليابان المحتاجة للسكان والعمال لا تريد استيرادهم حتى من الدول الأسيوية القريبة. اذا استمرت السياسات السكانية اليابانية على ما هي عليه اليوم، ستخسر ربع يدها العاملة قبل سنة 2050 مما يؤثر سلبا على كل شيء. نسبة الديون اليابانية من الناتج هي 238% وهي الأعلى عالميا. لم يعد الاقتراض داخليا فقط كالسابق، انما 12,5% منه خارجي وبالتالي لا يمكن لليابان أن تبقى مغلقة في التفكير والممارسة. يمكن لليابان أن تمول انفاقها وتسدد ديونها عبر زيادة الضرائب، علما ان نسبة الايرادات الضرائبية من الناتج هي فقط 6% مقارنة بـ12,3% لكندا و9,5% لفرنسا ومعدل غربي 8,3%. المستقبل مزدهر لليابان اذا غيرت نفسها بشكل معاكس للتفكير الترامبي أي اذا انفتحت.