لماذا تكره فرنسا الإسلام؟.. بقلم: وليد شرارة

لماذا تكره فرنسا الإسلام؟.. بقلم: وليد شرارة

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٠

عبثاً تحاول أوساط الفريق الحاكم في فرنسا، وحرّاس هيكل الأيديولوجيا الجمهورية من مثقّفين وإعلاميين، إدراج إعادة نشر الرسوم المسيئة للنبيّ العربي في إطار حرية التعبير والاعتقاد، وهما قيمتان ترقيان إلى مرتبة «القداسة» في السردية الرسمية الفرنسية عن الجمهورية وقيمها العتيدة. دحض مثل هذه الحجّة لا يحتاج إلى جهدٍ كبير. مجلّة «شارلي إيبدو» لم تنشر هذه الرسوم، وغيرها من الرسوم المعادية للمسلمين، منذ عام 2005، مساهمة منها في نقد الأديان بشكل عام، ودورها السياسي والاجتماعي، كما كانت تفعل عند تأسيسها في بداية سبعينيّات القرن الماضي. الالتفات إلى توقيت نشر هذه الرسوم بالغ الأهمية، لأنّه يلقي الضوء على خلفياته الأيديولوجية - السياسية الفعلية، نظراً إلى تزامنه مع انعطافة كبرى شرعت بها «شارلي إيبدو»، منذ انطلاق ما سُمّي بالحرب الأميركية، والغربية، على «الإرهاب». فالمجلّة التي كانت أحد أبرز منابر التيار المناهض للكهنوت، وللرأسمالية والاستعمار في فرنسا، انقلبت فجأة، مع انطلاق الحرب المذكورة، وبإشراف مرشدها الروحي المتصهيِن فيليب فال، إلى بوقٍ محرّض على الحركات الإسلامية، والإسلام كدين، باعتبارهما الخطر الأكبر الذي يهدّد أمن العالم والحضارة الحديثة، وكلّ ما يرمز إلى «الحرية والانفتاح والتنوير»، وغيرها من القيَم المجرّدة الجوفاء. لا بدّ من التذكير أنّ «شارلي إيبدو»، بدايةً، أعادت نشر صورٍ كاريكاتورية سبق أن نشرتها يومية «جيلاندس بوستين» الدانماركية اليمينية المتشدّدة، والتي يفترض أنّها تقف في موقعٍ نقيضٍ للمجلّة الفرنسية اليسارية. والحقيقة أنّ قطاعات وازنة من نُخَب الغرب، اليمينية واليسارية، المذعورة من ضمور نفوذها المتسارع على الصعيد العالمي، ومن صعود دور القوى والشعوب غير الغربية، ترى في المسلمين، بحكم التجربة التاريخية المشتركة، والجوار الجغرافي، ووجود كتلٍ سكّانية منهم في البلدان الغربية، «العدوّ الأقرب» و«الطابور الخامس»، الذي يمكن استنفار «العصبية البيضاء» في مقابله. اختراع عدوٍّ لاستنفار مثل هذه العصبية، وتوظيفها لغايات انتخابية و/أو سياسية، داخلية وخارجية، هو ما يبتغيه إيمانويل ماكرون وغيره من السياسيين الفرنسيين والغربيين، ضمن مسعاهم الدائم لصناعة الإجماع الداخلي، الضروري لضمان بقائهم في السلطة وتوحيد صفوف الديموقراطيات العريقة، والمرعوبة من خروج العالم عن سيطرتها.
من يعتقد أنّ المشاعر الفرنسية «المرهَفة» صُدمت عند إقدام يافعٍ شيشانيٍ تائهٍ في عالم الفتاوى الافتراضية، على قطع رأس مدرّس فرنسي عرض على تلامذته رسوماً مسيئة للرسول، عليه أن يتذكّر أنّ هذه المشاعر لم تُمَسّ عند ارتكاب عناصر من الشرطة الفرنسية، أي موظّفين يمثّلون الدولة، في العقدين الماضيين، عشرات الاعتداءات والجرائم العنصرية بحق مواطنين فرنسيين من أبناء الضواحي والأحياء الشعبية، ومن ذوي أصول عربية وأفريقية. في حالة الشاب آداما تراوري، مثلاً، الفرنسي من أصول مالية، الذي اختنق بعدما جثَم عليه أربعةٌ من عناصر الشرطة الفرنسية في أحد مراكزها، في 19 تموز/ يوليو 2016، لم تُفضِ هذه الجريمة العنصرية الفاضحة إلى حركة احتجاجية عارمة، كتلك التي شهدتها المدن الأميركية على مدى أسابيع، بعد جريمة قتل المواطن الأفريقي - الأميركي جورج فلويد في ظروف مشابهة، من قبل شرطي أميركي. أيّهما الأخطر على «الديموقراطية الفرنسية» وقيمها «الخالدة»: جريمة تُرتكب من قبل متطرّف أخرق، أم عشرات الجرائم المرتكبة من قبل المؤسّسة المكلّفة بالحفاظ على أمن المواطنين وحياتهم؟ ما يكشفه الكيل بمكيالين من قبل أغلبية وازنة من المجتمع الفرنسي، وكذلك توالي الاعتداءات العنصرية التي يشنّها أفراد فرنسيون ضدّ مهاجرين أو دور عبادة، وآخرها هجوم على سيّدتين جزائريتَين محجّبتين قي حي «الشان دو مارس» قرب برج إيفل، تشي بأنّ عصبية بيضاء تنتشر بقوة في وسطه. الرئيس الفرنسي، الذي تحدّث عن «انفصالية إسلامية»، أي تهديد لهوية البلاد وأمنها ووحدتها الترابية، وعن معركة بين «الحضارة والبربرية» في رثائه للمدرّس القتيل، في استعادة فجّة لمفردات الخطاب الاستعماري، وكذلك مساواته بين الإسلاميين والإرهابيين، يقوم عن وعيٍ بتغذية هذه العصبية وبإسباغ الشرعية والصدقية عليها كونه رأس الدولة، ولكلامه وقع أكبر في أوساط الرأي العام من وقع خطابات قادة اليمين المتطرّف مثلاً. يطلق المستهدفون من قبل سياسات الإقصاء والتهميش والحشر في ضواحي الفقر والتنكيل البوليسي، أي أبناء المهاجرين من أصول عربية وأفريقية، عليها تسمية العنصرية المؤسّسية، ويعتبرون أنّها استمرارية داخل حدود فرنسا للإدارة الاستعمارية لشؤون السكان، التي كانت سائدة في المستعمرات في زمن سابق. اتخذ العديد من هؤلاء الإسلام راية للدفاع عن الحقوق والهوية في آن واحد، بعد اندثار الأيديولوجيات التحرّرية الأخرى في العقود الماضية. هذا الدور الذي يقوم به الإسلام، هو الذي يستفزّ ويستنفر تياراً واسعاً من النخبة السياسية وجيوشاً من الخبراء والباحثين والإعلاميين، وسوادهم الأعظم من الصهاينة البارزين، كآلان فيلكنكراوت وباسكال بروكنير وإليزابيت بادينتير وإريك زيمور وكارولين فوريست وبيير أندري تاغييف وغيرهم، شاركوا في بلورة أطروحة التهديد الإسلامي الداخلي للتأكيد أنّ فرنسا وإسرائيل تواجهان عدواً واحداً. هذه نقطة بالغة الأهمية، وكثيراً ما يتجاهلها الباحثون والإعلاميون العرب: دور اللوبي الصهيوني وشبكاته «الأكاديمية» والإعلامية في صناعة نظرية التهديد الإسلامي. ربما تجب الإشارة أيضاً إلى أنّ الرئيس الفرنسي الذي يريد محاربة الإسلاميين والإرهابيين، هو نفسه من دفع البرلمان الفرنسي إلى استصدار قرار، صوّتت عليه أغلبية ضعيفة، يساوي بين العداء للصهيونية واللاسامية.
وكما يلجأ الرئيس الفرنسي إلى توظيف الصراعات الاجتماعية والسياسية الداخلية للترويج لفرضية التهديد الإسلامي، هو يستغلّ الصراعات الجيوسياسية بين فرنسا وتركيا مثلاً للغاية نفسها، فيصبح الرئيس التركي ليس مجرّد منافسٍ على النفوذ والثروات في ليبيا وشرق المتوسط، بل صاحب مشروع إمبراطوري «عثماني» خطير على أوروبا نفسها! خطاب كراهية الإسلام الذي صيغ في حقبة التوسّع الاستعماري في القرن التاسع عشر، أيام كانت فرنسا قوة صاعدة، يستعاد اليوم، بعد تحوّلها إلى قوة هرمة، لرصّ الصفوف والاتحاد مع بقية القوى الغربية ضد «الآخرين»، مسلمين وغير مسلمين.