انعطافة أميركية مرتقبة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

انعطافة أميركية مرتقبة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٥ يناير ٢٠٢١

لا شك أن ما جرى بين 3 تشرين الثاني الماضي، الذي شهد الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، وبين الـ20 من كانون الثاني الجاري الذي شهد تنصيب جو بايدن كرئيس حمل الرقم 46 بين رؤوساء الولايات المتحدة الأميركية، لا شك أنه سيؤرخ لمرحلة هي الأعقد في تاريخ هذي الأخيرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، الحدث الذي أسس لصعودها كقوة عظمى تشاركت السيادة العالمية جنباً إلى جنب الإتحاد السوفيتي، قبيل أن تنفرد بالسيطرة تماماً بعيد تفكك وانهيار هذا الأخير أواخر العام 1991.
توصيف المرحلة السابقة بالأعقد يجب أن يضاف إليه توصيف آخر هو الأخطر، وكلا التوصيفين يصبحان مشروعين انطلاقاً من التهديد البنيوي الذي حملته هذه المرحلة، المشار إليها، تباشيره على سطوح التجربة الأميركية، فمرحلة السنوات الأربع المنصرمة من حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كانت في عنوانها الأبرز «نموذجاً للقوة»، وهي مثلت بالتأكيد قطيعة مع «قوة النموذج» الذي ساد على امتداد عقود كانت التجربة فيها تلقى رواجاً على المستويين الداخلي وجزء كبير من خارج كان يرى فيها طريقاً، هو الأنجح، في بناء القوة والثروة والسطوة.
عكس خطاب التنصيب الذي ألقاه جو بايدن يوم الأربعاء الماضي في الشكل والمضمون، هواجس داخلية بالدرجة الأولى، من نوع التركيز على استعادة الأميركيين لوحدتهم، وإن كان بعضاً منها يشير إلى نظيرة لها خارجية برزت من بين الشقوق، من نوع وجوب استعادة أميركا لدور السيادة العالمية، والخطاب الذي لم يستمر لأكثر من عشرين دقيقة كان استثنائياً لجهة الحضور القليل الذي فرضه وباء كورونا، وكذا هواجس الأمن التي أمكن لحظها من خلال الحضور الكثيف للقوات الأمنية بطريقة غير معهودة في مثل مناسبات كهذه والتي تستغل عادة لتكريس عظمة الكيان ورسوخ مؤسساته، كدلالة على السطوة والنفوذ، والمؤكد هو أنه كلما خبا الهاجس الأمني زاد ذلك من الرسائل في صندوق بريد ما انفك العديد من قوى الخارج المتحفزة تحاول فك شيفراته ومعرفة عمق محتواه، واللحظة، أي حفل التنصيب، تمثل فرصة نادرة تستدعي استنفار كل الحواس لدى تلك القوى للوصول إلى تقدير، لا يشوبه الخطأ، يكون راسماً للحالة التي يمر بها «العملاق» الذي بدا مرتبكاً في مراحله الأخيرة.
خلا خطاب التنصيب تقريباً من أي إشارات مباشرة يمكن أن تعرض لنهج إدارة بايدن الذي ستتعاطى من خلاله مع الأزمات الساخنة على امتداد هذا العالم، وإن كان العرض هنا قد جاء بشكل غير مباشر تحت ما يسمى «استعادة أميركا لدور السيادة العالمية» الذي يعني حتماً تنشيط دورها في تلك الأزمات، ثم أن ثمانية من أصل ثلاثة وعشرون شخصاً اختارهم بايدن لقيادة المرحلة الانتقالية من عهده، هم مرتبطون إما بشكل مباشر بشركات التصنيع الحربي، وإما بشكل غير مباشر بمراكز أبحاث تتلقى تمويلاً من تلك الشركات، ولذلك بالتأكيد مدلولاته التي تشير عن بعد إلى أن بعض المسالك المتبعة لعودة «الإمبراطورية» الأميركية إلى سابق عهدها ستكون عبر استخدام القوة في العديد من المناطق التي اهتز النفوذ الأميركي فيها.
فيما يخص التوجهات المحتملة في طريقة تعاطي إدارة بايدن مع الأزمة السورية، يمكن رصد مؤشران مهمين، وهما ذوا دلالات تفضي إلى استكشاف افتراضي لتلك التوجهات، أولاهما عودة برت ماغورك إلى الدائرة الضيقة المعنية باتخاذ القرار داخل البيت الأبيض، والأخير هو مسؤول سابق في وزارة الدفاع، كان قد استقال من منصبه في شهر كانون الأول من العام 2019، أي في أعقاب الصفقة التي توصل إليها الرئيس السابق دونالد ترامب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبيل شهرين من هذا التاريخ الأخير، وهي التي اعتبرت في حينها بمنزلة ضوء أخضر أميركي لشن العملية العسكرية التركية التي أطلق عليها اسم «نبع السلام»، هذه العودة تعني في مضامينها أن ثمة توجهاً يبدو واضحاً لزيادة الدعم الأميركي المقدم لميليشيا «قسد»، وربما العودة إلى التموضعات التي سبقت مرحلة الانسحاب الأميركي في مواجهة التقدم العسكري التركي في شهر تشرين الأول من العام 2019، وهو احتمال وارد يعززه العديد من التقارير الصادرة من واشنطن، والتي ترجح أن يأتي ماغورك في إطار إدارته للملف السوري، التي سيتولاها على الأرجح، بفريق متكامل يكون متوافقاً معه في رؤياه السابقة الذكر، وتضيف تلك التقارير إن، زهرا ميل، التي تتبنى نظرية مفادها أن تقوية نفوذ واشنطن في سورية يمر عبر طريق واحد هو تقوية نفوذ «قسد»، ستكون ذراعه اليمنى من منصبها الذي ستشغله كمديرة للملف السوري في مجلس الأمن القومي الأميركي، وثانيهما هو خروج جويل رايبرون من منصبه كمبعوث يعنى بملف الأزمة السورية، إذ من المعروف أن هذا الأخير كان يمثل رأس حربة في مواجهة إيران في سورية، والعديد من التقارير أشارت إلى أن رايبرون كان يريد البقاء في منصبه إلا أن إدارة بايدن فضلت إعفاءه نظراً لأن «مواقفه تتضارب مع مواقف الإدارة المقبلة».
من حيث الدلالات فإن المؤشر الأول يفضي إلى قراءة يرجح فيها أن يشهد ملف شرق الفرات تصعيدا كبيراً، وهو قد يؤدي، تبعاً للدرجة التي يمكن أن يصل إليها، إلى حالة تلاق روسية تركية أكبر، وربما تركية سورية في مرحلة متقدمة، فالمؤكد أن التوجه الأميركي في هذا الملف لن يرضي أنقرة التي ستجد نفسها في دائرة الرمي الأميركية بشكل مباشر، وفي ذاك سيفتح باب المقايضات بين واشنطن وأنقرة على مصراعيه، والجعبة ستحتوي ملفات ضخمة تبدأ بمنظومة إس 400 الروسية، وتمر بموقع تركيا في حلف شمال الأطلسي، عبوراً إلى ملف المقاتلات الأميركية إف 35، قبيل أن تصل إلى الدور الإقليمي التركي والحدود التي يجب أن يقف عندها، وفي التقديرات فإن الخيارات التركية تبدو شديدة الضيق، والتجاوب التركي مع طلبات أميركية ستكون حاسمة في النقطتين الأوليين، حيث سيؤدي الفعل إلى فقدان الدور التركي زخماً تمنحه عوامل جيوسياسية أتاحها التقارب مع الروس، وهي كانت أثقل من تلك التي أتاحها التقارب مع الغرب على ضفتي الأطلسي، أما المؤشر الثاني فهو يحمل تراجعاً أميركياً محتملاً، في مسعى كان يمثل حجر زاوية لإدارة ترامب السابقة، عن خيار مواجهة إيران في سورية، وهذا يتلاقى مع توجه آخر عريض للإدارة المقبلة تبدو تراسيمه شديدة الوضوح لجهة الذهاب نحو العودة إلى اتفاق فيينا تموز 2015، أو آخر معدل له سيكون التوصل إليه، إذا ما حدث انقلاب في التوازنات الإقليمية الراهنة، انطلاقاً من أنه سيتضمن بالتأكيد إشارات واضحة إلى الدور الإقليمي الإيراني، الأمر الذي غاب عن اتفاق فيينا أقله كتابياً، وإن كان من المرجح أن ذلك كان قد حدث بتوافقات شفوية لم تكن ضامنة بما يكفي كما أثبتت الوقائع.
كتكثيف لكل ما سبق، فإن التباشير الأولى لسياسات بايدن في سورية، تقول إن تلك السياسات ستشهد انعطافة كبيرة قياساً بالتي سبقتها، وهي ستتضمن العمل على ترسيخ مصالح واشنطن وفق رؤيا جديدة، وهذا سيتطلب زيادة عديد القوات الأميركية في سورية، وكذا زيادة الدعم الأميركي للمعارضة السورية على مختلف أنواعها، مع تصلب أميركي في ملف إعادة إعمار البلاد، وهذا كله لا يوحي بأن الأزمة السورية ستكون على موعد مع حط رحالها في غضون عهد جو بايدن الذي سيقضي سنوات أربع في الحكم على الأقل.