امرأة تكتب وتركض في الرياح.. بقلم: يوسف أبو لوز

امرأة تكتب وتركض في الرياح.. بقلم: يوسف أبو لوز

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٦ مارس ٢٠٢١

كانت نوال السعداوي (1931-2021) في الثلاثين من عمرها حينما دخلت سجن القناطر في أوائل الثمانينات في عهد السادات، وعلى رغم الفترة القصيرة التي أمضتها في السجن ( ثلاثة أشهر)، إلاّ أنها كانت كافية لتضع واحداً من أهم كتبها، بل لعلّه الأهم في تاريخ هذه المرأة التي كانت تكتب وكأنها تركض. تدفق، وغزارة وانسياب في أي شكل من أطياف أدبها وأفكارها من القصة إلى الرواية إلى المذكرات، وحتى آخر أيام حياتها على سرير المرض.
«مذكراتي في سجن النساء» هو تجربة السعداوي الأولى من حيث هذا النوع من الكتابة الذي يعتمد على الوصف، وهي بارعة في هذا الفن الذي يجعل السرد دفّاقاً وراكضاً على طريقة صاحبة «أوراقي.. حياتي» في ثلاثة أجزاء هي أيضاً مذكرات امرأة عاشت في قلب الرياح.
تصف لحظة دخولها السجن بدءاً من الأبواب: «الأبواب ذات القضبان الحديدية تنعكس ظلالها على الجدران المرتفعة في الظلمة كالأشباح الخرافية. حديد يدور في الحديد ويصطك. الصوت يرتطم بالأسوار، ويرتد الصدى فوق الجدران، كأن مئات الأبواب الحديدية، توصد، وتُغلق وصفير حاد كالصمت».
جاءت نوال السعداوي إلى الكتابة ليس من عيادة الطب والجراحة الصدرية، تخصصها، بل، جاءت إلى الكتابة من قرى الفلّاحين وصور النساء المنكسرات والفقراء الذين يُشيّد الأطباء بدمائهم العِزَب والعمارات« لم أدخل في حياتي لعبة السياسة ولا الأحزاب ولا الصحافة ولا الانتخابات ولا الجمعيات النسائية، حتى مهنة الطب هجرتها. رأيت الأطباء يشترون العِزَب ويشيّدون العمارات بدم المرضى الفقراء، والناس تمرض بسبب الفقر والجوع والقهر وليس في الطب أقراص لعلاج هذه الأمراض».
وجدت نوال السعداوي ذاتها الإنسانية وحقيقتها الثقافية في الكتابة، لا في الطب ولا في السياسة. القلم سلاحها والقلم وسيلة الدفاع الوحيدة للتعبير عن كينونتها البشرية: « لم يبق لي من سلاح في حياتي إلاّ القلم. أدافع به عن نفسي، عن حرّيتي وحرية الإنسان في كل مكان. لم يبق لي إلاّ القلم لأعبّر عن مأساة الفقراء والنساء والعبيد».
في الجزء الأول من كتابها «أوراقي.. حياتي» تشفّ نوال السعداوي وتظهر روحها الطفلية وهي تتحدث عن الحب في أغاني الراديو أيام الستينات والسبعينات: «الراديو لا يكفّ عن أغاني الحب. أم كلثوم تغني ليل نهار: «ما دام تحب بتنكر ليه ده اللي يحب يبان في عينيه». عبدالوهاب لا يكف عن نداء الحبيبة «يا نوال فين عيونك». فريد الأطرش ينوح في الليل والنهار على حبيبته، أسمهان بصوتها المبحوح تتغنى بالحبيب الغائب. ليلى مراد تردد«يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرى لي».
إذا أردت البحث عن نوال السعداوي الشاعرة في هذا النثر السردي العذب تجدها أيضاً، ولكن متوارية دائماً وراء فكرتها الأساسية: الدفاع عن حقوق الكائن البشري الإنساني، وبخاصة الدفاع عن المرأة وحقوقها وهويتها بصلابة حدّ الشراسة، ودائماً، كما يليق بكاتبة عربية كسرت حاجز الخوف، وكانت تمشي دائماً في الرياح.. تكتب كما تركض في الرياح.