نذر حرب في دونباس.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

نذر حرب في دونباس.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢١ أبريل ٢٠٢١

قد يكون المبرر الوحيد للتصريح الذي أطلقه الرئيس الأميركي جو بايدن يوم 15 نيسان الجاري، والذي قال فيه «حان الوقت لخفض التوتر مع روسيا»، هو تهيئة المناخات لنجاح، ولو في حدوده الدنيا، لقمة روسية أميركية تبدو منتظرة، بمعنى أنها قد تجري قريباً ما لم تحدث تطورات تحول دون انعقادها، أو تؤدي من حيث النتيجة إلى تأجيلها.
يمكن الجزم هنا بأن ما من مبرر لذلك التصريح سوى أنه جاء في هذا السياق السابق الذي يهدف لإنقاذ التلاقي الأول ما بين الرئيسين، فالرئيس الأميركي ما انفك منذ بدء حملته الانتخابية يطلق التهديدات الواحدة تلو الأخرى باتجاه موسكو التي صنفتها استراتيجيته المعلنة شهر شباط الماضي بأنها تأتي بالدرجة الثانية، بعد الصين، من حيث تهديدها للأمن القومي الأميركي، ثم إنه منذ أن دخل البيت الأبيض، قبيل نحو مئة يوم، لم يترك فرصة إلا وهاجم فيها النظام الروسي الذي سبق أن وصف رأس الهرم فيه، قبل أيام فقط، بـ«القاتل»، ومن المؤكد أن ما قاله بايدن لم يكن اعتباطياً، ولا زلة لسان، بل هو يغوص في أعماق تفكيره، لأنه ببساطة يرى فيه، أي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رمزاً للنهوض الروسي الطامح لوراثة الدور والمجد السوفييتيين.
يمكن تفسير «المرونة» التي تعاطى بها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع روسيا على أنها كانت رهاناً طال أمده في محاولة جر موسكو للخندق الأميركي استعداداً للمنازلة الكبرى مع التنين الصيني الذي ما انفك يطلق صيحاته في شتى الاتجاهات، والتي كلما أطلق واحدة منها زاد التوتر والقلق الأميركيين بدرجة تتناسب وحدة تلك الصيحة التي غالباً ما يختارها التنين بشكل مدروس على شاكلة الرسوم المنقوشة ببراعة على الخزف الصيني.
الآن مع بايدن لم تعد خيارات ترامب «المرنة» حالة مقبولة، ليس بسبب فقدان الأمل من نجاح تلك الخيارات سابقة الذكر فحسب، وإنما لأسباب أخرى تبدو أكثر أهمية، أبرزها أن النظرة الأميركية للاتحاد الروسي قد تغيرت، وهناك من بين النخب الفكرية الأميركية التي «يستأنس» بتنظيراتها في صناعة القرار من يقول إن الغرب قد فشل في غضون ثلاثة عقود التي تلت سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي، في قولبة روسيا على شاكلته من الناحيتين السياسية والاقتصادية، في حين كانت الرؤيا عند آخرين، من تلك النخب، بأنه لم يعد وارداً تصنيف روسيا كدولة إقليمية كبرى، والصحيح أنها باتت مشروع قوة دولية عظمى خصوصاً بعد دخولها للشرق الأوسط، وترسيخ أقدامها فيه، وهو ما كان خلال العقود الماضية حديقة «محرمة» لا يجوز للآخرين العبث به.
هذا الدور الروسي المتصاعد، وليس المنحدر، وفق بعض النخب الأخرى، سيسعى الغرب إلى محاولة كبح جماحه، على حين الساحتين المحتملتين لمواجهة ذلك الصعود هما سورية وأوكرانيا، وإذا ما كانت الإستراتيجية الأميركية لم تتبلور تجاه الأولى بشكل واضح يمكن من خلاله فهم المرامي والأهداف تبعاً للسلوك العملياتي وليس بناء على التصريحات، فإن تلك الإستراتيجية تجاه الثانية تبدو أكثر وضوحاً، ولربما يجوز القول إنها في مراحل تبلورها النهائية، الأمر الذي يفسر التوتر القائم منذ أسابيع في إقليم «دونباس» شرقي أوكرانيا، والذي تشير كل معطياته إلى نذر حرب تلوح في الأفق، بل ولربما تبدو حتمية نظراً لوجود حكومة حرب في كييف وهي تحظى بدعم غربي مطلق، في حين يرى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الباحث عن مغامرة عسكرية، أن فعلاً من هذا النوع يمكن له أن يعزز من مواقعه الداخلية على أعتاب انتخابات رئاسية.
الحتمية هنا تتأتى من أن روسيا يستحيل عليها اتخاذ وضعية المتفرج على ما يجري في دونباس، وهي ترقب بدقة التصريحات التي يطلقها حلف الناتو الذي أصدر 12 نيسان الجاري، بياناً في أعقاب لقاء وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع أمين عام الحلف يانس ستولتنبرغ جاء فيه أن «الضرورة ملحة لإنهاء روسيا الحشد العسكري على حدود أوكرانيا وفي القرم المحتلة»، ولربما كان للعبارة الأخيرة رمزية تتعدى في مضامينها تلك الضرورة الأولى التي جاءت في بداية العبارة الواردة في البيان، يأتي هذا التصعيد من قبل الحلف لحشر موسكو في زاوية ضيقة، فالأخير، أي حلف الناتو، يدرك أن موسكو يستحيل عليها، تحت أي ظرف كان، التخلي عن إقليم دونباس لاعتبارات جيوسياسية من شأنها أن تقوي من موقع أوكرانيا في مواجهتها، الأمر الذي يمكن تلمسه في التحذير الذي وجهه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لحكومة كييف من القاهرة يوم 12 نيسان، أي بالتزامن مع لقاء بلينكن مع ستولتنبرغ آنف الذكر، مذكراً إياها بما جرى في العام 2014، وضرورة الاستفادة من العبر المستخلصة منه.
إذا ما حدثت الحرب، التي لن يمنع حدوثها إلا قمة مفترضة روسية أميركية يجري التنسيق بشأن انعقادها لتحقق نجاحاً ما، فإن موسكو ستسعى إلى كسبها بشكل خاطف وسريع على نحو ما حدث في العام 2008 الذي شهد صيفه الحرب الروسية الجورجية، والتي يصح توصيفها على أنها كانت «صرخة» النهوض الروسية الأولى بعد عقدين من تيه القوة، فالكسب الساحق هذه المرة يبدو مطلوباً بدرجة أكبر من الأولى لإطلاق الصرخة الثانية التي ستحيل آمال الناتو بالتمدد نحو العمق الروسي إلى أوهام، والجري الدائم وراءه ذي أكلاف باهظة من دون مكاسب تذكر.