سنة أولى «بريكست».. بقلم: محمد خالد الأزعر

سنة أولى «بريكست».. بقلم: محمد خالد الأزعر

تحليل وآراء

الأحد، ٢٣ مايو ٢٠٢١

في منتصف ليل الأول من فبراير 2020، وهو الموعد الرسمي لخروج مملكتهم من الاتحاد الأوروبي، استقبل البريطانيون الحدث بثلاثة تعبيرات، لخصت مواقفهم وجدالاتهم خلال الأعوام الخمسة السابقة على تلك اللحظة الفارقة.
فالرافضون والمناهضون، الإسكتلنديون بخاصة، أقاموا وقفة حزن احتجاجية على ضوء الشموع.. بينما أفصح المؤيدون من أصحاب النزعة الشعبوية القومية عن سرورهم، بمظاهر احتفالية في ميدان البرلمان وسط لندن. هذا في حين ساد الوجوم والترقب على بقية القطاعات الشعبية، ممن يصح تسميتهم بالمرجئين والمتربصين، الذين لم يتيقنوا بالضبط من الوجهة التي ستقودهم إليها تلك الخطوة.
ربما لم تمر حتى الآن فترة تكفي لتقييم كل الآثار والتوابع والتبعات التي توقعها أو لم يتوقعها هذا الفريق أو ذاك. لكن منطق الأشياء والمعلوم بالضرورة وبعض البيانات والمعطيات الأولية، تعرض مؤشرات مهمة في مضمار الاستطلاع والتشوف.
فمدارات العلاقات الدولية تميل في الأصل لصالح تفضيل الأطر التعاونية والوحدوية بمستوياتها المتفاوتة. والاعتقاد الرائج بين الفقهاء وأهل الذكر، المستند إلى السنن والسوابق والخبرات، هو أن الأنساق الجماعية ذات الصبغة الإقليمية أو القارية أو الدولية، يمكنها تحقيق المصالح المتعينة للدول المنخرطة فيها، على نحو يفوق بكثير ما هو جائز التحقق من خلال التحليق المنفرد خارج السرب.
هذه القناعة تثير التساؤل حول ما إذا كانت العودة البريطانية إلى حدود الذات القومية أو الوطنية، والابتعاد بمسافة كبيرة عن الشركاء الأوروبيين تمثل استثناء مقبولاً.
المراد بكلام آخر، أن الخطوة البريطانية جاءت معاكسة على طول الخط للاتجاه السائد عالمياً، حيث تنحو الوحدات والقوى مختلفة التخصصات والاهتمامات، وعلى رأسها الدول، إلى تكوين التجمعات والتكتلات، على رجاء تعظيم المصالح والإنجازات.. فهل أدرك أنصار «بريكست»، دون خلق الله، أن هذا التعظيم يتأتى بالنسبة لدولتهم من السير في عكس هذا الاتجاه، الذي غمر القارة العجوز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟!.
عند التأمل في دفوع أنصار «بريكست» وتبريراتهم، نجد أنها دارت حول رفض هجرة الأوروبيين وغير الأوروبيين، واستفادتهم من نظم التأمينات والإعانات البريطانية، والتذمر من الرسوم الاتحادية التي يجري إقرارها وفقاً لقوة اقتصاد الدول الأعضاء، واتهام مؤسسات الاتحاد بالافتقار للديمقراطية، والاستشهاد بالصلاحيات الواسعة للمفوضية الأوروبية غير المنتخبة، والرغبة في التحرر من الأجسام القضائية الاتحادية، والانحياز لأولوية المحكمة البريطانية العليا، والغضب من الأعباء التي يفرضها الاتحاد لخدمة اللاجئين.
إجمالاً، تبدو معظم هذه الذرائع وثيقة الصلة بالغيرة البريطانية الفائضة على كثير من مفردات السيادة القومية.
وإدراكاً منهم لهذه الحساسية، فقد تسامح الاتحاديون مع العزوف البريطاني عن الوفاء ببعض المتطلبات الجماعية كعدم الاشتراك في منطقة اليورو، وقبول التحفظات بشأن قضايا المهاجرين واللاجئين، وانسياب حركة التنقل بين الدول الأعضاء.
وعليه، فإن معظم ما تبقى في ساحة إصرار لندن على مغادرة الحوزة الاتحادية، كان موصولاً بالأبعاد المادية الاقتصادية. وهنا يمكن المحاججة بأن بيانات العام الأخير، لا تطمئن المعنيين إلى أن خيار «بريكست» يمضي بأنصاره نسبياً إلى الربح وليس الخسارة.
على سبيل المثال، انتهت وزارة الخزانة البريطانية مؤخراً إلى أن «الخروج لن يحسن اقتصاد المملكة. فخلال الخمسة عشر عاماً المقبلة، سيمسي الوضع أسوأ مما كان عليه في زمن عضوية الاتحاد بمعدل يراوح بين 2 و8 في المئة».
وثمة تأكيدات على أن انخفاض الهجرة سوف ينعكس سلباً على بعض القطاعات. ومن ذلك القطاع الصحي، الذي سيعاني من عجز هيكلي في وظائف الأطباء والتمريض والقابلات، قياساً بما هو متاح لدول الاتحاد.
وقل مثل ذلك عن جوانب أخرى، كانخفاض الدخل القومي بمقدار 350 مليون جنيه إسترليني في الأسبوع الواحد، وهبوط دخول الأسر والأفراد، بسبب تراكم الحواجز أمام فرص التجارة والاستثمار الأجنبي، واضمحلال العمالة المهاجرة المنخفضة التكلفة.
هذا فضلاً عن تراجع الصادرات إلى أوروبا في السنة الأخيرة بنحو 5.6 مليارات جنيه إسترليني، وتراجع الواردات بمقدار 6.6 مليارات. قبل «بريكست» ببضعة أعوام، قيل إن أصوات الداعين للاحتذاء بالنموذج البريطاني موجودون في مناطق وبين شرائح اجتماعية وسياسية أوروبية أخرى. وكان ذلك صحيحاً.. لكن اللافت راهناً هو انحسار هذه الأصوات. ومع ذلك، فلعلنا بحاجة لمزيد من الوقت والمتابعة عن كثب، كي نستيقن من مجمل هذه الحقائق.