شرق الفرات على نار ليست هادئة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

شرق الفرات على نار ليست هادئة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأحد، ٦ يونيو ٢٠٢١

سرت في الآونة الأخيرة تقارير إعلامية كانت في بعض منها تستند إلى مصادر رفيعة، كما تقول، من دون أن تكشف عنها كما جرت العادة في مثل حالات كهذه لعدم وجود مواقف واضحة أو رسمية حتى اللحظة، وهي، أي تلك التقارير، تشير إلى وجود رغبة لدى الرئيس الأميركي جو بايدن بسحب قواته من سورية، كان من أبرز تلك التقارير ذاك الذي نشرته جريدة «الشرق الأوسط» أواخر شهر أيار المنصرم، وجاء فيه «أن لدى بايدن رغبة لسحب قواته من سورية شريطة تثبيت ما تحقق من إنجازات في مواجهة تنظيم داعش» والقول السابق منسوب أيضاً لمصادر أميركية لم تسمّها الصحيفة، ثم خلصت في تقريرها آنف الذكر إلى القول: «إن تلك الرغبة هي ما يفسر تأخر إدارة بايدن في تعيين مبعوث أميركي خاص بسورية»، أسوة بما كان الأمر عليه زمن الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب، بل إن تقرير الصحيفة ذهب إلى حدود ترجيح «أن ذلك قد لا يتم أبداً» بمعنى أن لا تذهب إدارة بايدن إلى تسمية مبعوث خاص لها في سورية، لاعتبارات تتعلق بالنهج الذي تنوي اتباعه في هذه الأخيرة، والذي لا يزال قيد التبلور.
ما يجعلنا نرجح ما ذهب إليه تقرير الشرق الأوسط، وكذا التقديرات التي ذهب إليها في مقاربته للتطورات المحتملة التي يمكن أن يذهب إليها ملف شرق الفرات السوري الذي لم يعد منذ فترة على نار هادئة، مؤشرات عدة هي في كثير منها تفوق ما ذكرته المصادر التي استند إليها التقرير، ولربما تشكل مجتمعة صورة داعمة للترجيحات التي خلص إليها هذا الأخير، من دون أن يعني ذلك بالضرورة مؤشراً زمنياً يوحي بقرب حلحلة الملف انطلاقاً من اعتبارات عدة تستلزمها عملية البلورة المرتبطة بعوامل عدة سوف تحدد السرعة التي ستتخذها تلك العملية.
من تلك المؤشرات أن الوفد الأميركي الذي زار شمال شرق سورية أواخر شهر أيار الماضي برئاسة مساعد نائب وزير الخارجية «جوي هود» كان قد أبلغ مسؤولي «الإدارة الذاتية» الذين التقاهم بأن «واشنطن لن تسحب قواتها من المنطقة بشكل فوري ومفاجئ إلا بالتنسيق معهم ومع الدول الغربية الأخرى»، وهذا يعني، ضمناً، بأن قرار الانسحاب مطروح، أما نفي صفة «الفورية والمفاجئة» عنه فمرده لاعتبارات لها علاقة بتهدئة «الحليف» الذي سيحس بـ«اليتم» في حال مغادرة «حليفه»، ولذا فإن الأخير يريد له أن يكون تدريجياً، وما يدعم ذلك الاستنتاج هو أن الوفد الأميركي كان قد أخفق في محطتين كان يرى فيهما، فيما لو نجح، أرضية يمكن البناء عليها، أولاهما هي أنه أخفق الوفد الأميركي في إقناع ميليشيات «قسد» في التفاهم مع «المجلس الوطني الكردي» على إدارة مناطق شرق الفرات، وثانيهما هو رفض «قسد» الابتعاد، ولو تنظيمياً، عن حزب العمال الكردستاني، والسماح لقوات «البيشمركة» التابعة للـ«المجلس الوطني الكردي» بتولي حماية المناطق الحدودية مع تركيا للتخفيف من روع هذه الأخيرة، وكلا الفشلين سيدفع بالإدارة الأميركية لتبني مقاربة المبعوث الأميركي السابق جيمس جيفري التي تدعو للحفاظ على دور تركيا وموقعها في حلف الناتو، الأمر الذي يفرض بالضرورة مقاربة جديدة للعلاقة مع الميليشيات الكردية، والتي قد تكون مختلفة جذرياً عن تلك التي قامت بين العام 2014 وصولاً إلى اليوم.
ومنها، أي من تلك المؤشرات، ما نشره موقع «المونيتور» الأميركي يوم 22 أيار الماضي عن وجود قرار يقضي بعدم تمديد إدارة بايدن للإعفاء الذي منحته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لشركة «دلتا كريسنت إينيرجي» النفطية الأميركية العاملة في مناطق شرق الفرات، والتي انتهى قرار إعفائها من العقوبات التي تطولها بموجب «قانون قيصر» في 30 نيسان الماضي، وعلى الرغم من أن القرار لم يتخذ بشكل نهائي، ولا تزال هناك قوى فاعلة تعمل لمنح الشركة تمديداً آخر، إلا أن الوقائع تقول: إن إدارة بايدن سوف تمضي في هذا الملف في خيارها آنف الذكر نتيجة لمعطيين اثنين، أولاهما أنها قررت المساومة مع الروس، بمعنى أن يتم الاتفاق على وقف التمديد لشركة «دلتا كريسنت إينيرجي» في مقابل عدم استخدام موسكو لحق النقض «الفيتو» ضد قرار سيجري التصويت عليه شهر تموز المقبل في مجلس الأمن للسماح بدخول المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة عبر معبري «اليعربية» الحدودي مع العراق و«باب الهوى» الحدودي مع تركيا، وإذا ما كانت واشنطن قد ذهبت في توافقاتها مؤخراً مع أنقرة نحو خطوة استباقية مثلتها زيارة المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة ليندا جرينفلد التي زارت تركيا الأربعاء الماضي لحل مشكلة المعبر الأخير، فإن مشكلة الأول ستظل قائمة، والراجح هو أن لا تذهب موسكو إلى مجاراة واشنطن في تلك المقايضة خصوصاً أنها تريد تمرير المساعدات فقط عبر الحكومة السورية مما يقوي من مركزيتها، وثانيهما أن ثمة أحاديث تدور في دوائر صنع القرار الأميركي، وهي تشير إلى مجموعة من التشابكات القانونية التي يمكن أن تنشأ عن تسويق النفط بموجب اتفاقية موقعة مع جهة فاعلة غير حكومية «هي قسد»، وهذه المداولات نشأت مؤخراً في أعقاب رفع العراق دعوى أمام محكمة دولية ضد تركيا لدورها في مساعدة كرد شمال العراق على بيع النفط من دون إذن الحكومة العراقية، وعبرها تجد أنقرة نفسها اليوم مهددة بدفع تعويضات قد تصل إلى 26 مليار دولار بنتيجة التحكيم سابق الذكر، هذا التطور على درجة عالية من الأهمية، فـ«قسد» وقبل أي أحد غيرها، تدرك أهمية النفط في استمرار بقائها، وهي تستسقي إدراكها سابق الذكر من تجربة شمال العراق الذي لعب فيه النفط دوراً هو الأهم في تعزيز الاستقلال الذاتي بعيداً عن مركزية بغداد.
ثالث المؤشرات هو التقرير الذي نشره موقع «بريكتغ ديفيس» أحد أشهر المواقع العسكرية الأميركية قبل أيام، والذي حذّر فيه من مغبة انسحاب «قوات التحالف الدولي» من سورية في «ظل وجود نيات صينية مبيتة للاستفادة من ذلك الانسحاب «لكي» توسع بكين من نفوذها في الشرق الأوسط والخليج»، والتقرير اعتراف مهم لموقع مقرب من «البنتاغون» بوجود نيات جدية لدى بايدن بالانسحاب من سورية، أما التحذير فهو نوع من الضغوط الاستباقية التي يمكن لهذا الأخير، أي البنتاغون، ممارستها لمنع الرئيس الأميركي من المضي قدماً في نياته، تماماً كما فعل مع الرئيس ترامب حينما نجح في منعه من تنفيذ قرارين كان قد اتخذهما للانسحاب من سورية، إلا أن المعطيات اليوم تغيرت كثيراً، وهو ما اقتضى إدراج الأمر، أي الانسحاب الأميركي من سورية، في سياق الصراع مع الصين الذي صنفته إدارة بايدن على أنه الأهم، والذي سيحدد مستقبل «الإمبراطورية الأميركية» ومدى قدرتها في الهيمنة على العالم.
ملف شرق الفرات على نار تكتسب سخونة تدريجية بفعل متغيرات إقليمية وأخرى دولية، ومشروع «قسد» سيسقط لأنه ببساطة يقع خارج حقائق الجغرافيا والتاريخ، ولن يكون مصيره سوى الزوال، أما الندبات التي يمكن له أن يخلفها فستزول هي الأخرى بفعل النسيج المجتمعي الذي أظهر مؤخراً ميله الواضح للعودة إلى «إمامة قاسيون».