أحاديث الأشجار.. بقلم: رشاد أبو داود

أحاديث الأشجار.. بقلم: رشاد أبو داود

تحليل وآراء

الأحد، ١ أغسطس ٢٠٢١

كلما كبرنا أصبحنا إلى الأرض أقرب، لكأن الحياة تأخذ بيدنا إلى هناك، هناك الذي لا مكان غيره، المقرر للإنسان منذ آدم. لكن لا تستعجل الوصول، حتماً ستصل. ولأن «الطريق إلى البيبت أجمل من البيت»، كما قيل، تمتع بكل ما أوتيت من حياة، وافعل ما ألْهتك عنه عقارب الساعة تقرصك كل صباح فتقفز من نومك، بعينين نصف مفتوحتين لتلحق بموعد عملك. عملك الذي استهلك ثلثي عمرك.
في الطريق ثمة وقت لتتعلم لغة الشجر، وتفهم ماذا تعلمك دالية العنب. الورق أولاً لتحمي قطوفها التي تبدأ حصرماً أخضر حامضاً، ثم تنضجه الشمس تحت الأوراق على رواق. اصبر، كل شيء جميل في أوانه ولكل في الحياة موسمه. وفي موسمه يكبر العنب، يصبح الحامض حلواً.
منذ ثلاث سنوات اكتشفت أن لي أبناءً غير أبنائي. أسماؤهم: زيتون وتين وليمون، عنب وعناب، برتقال وخوخ وبرقوق. وأن لي بنات لم أنجبهن: جورية، قرنفلة، ياسمينة، غاردينيا، زنبقة وأخواتهن. أجمل ما فيهن أنهن يتكلمن بدون كلام. بل بالعطر الذي يفوح كلما اقتربت منهن. لكل منهن لون فستانها المميز. يصبّحن علي فيتلون صباحي بالبهجة وقهوتي بألذ النكهة.
الأشجار هي الأخرى لا تتكلم، لكنك تحدثها فتصغي إليك. تحيا واقفة على ساق واحدة ولا تتعب. تبدل ثيابها كل خريف. تضبح عظاماً ولا يؤذيها برد تشرين وكانون. تغتسل بالمطر وتشرب من ماء السماء. وفي الربيع تخرج من خزانتها ملابس جديدة تخيطها الطبيعة بعناية، ترتديها خضراء من غير سوء.
أتابعها رضيعة وصبية وحين تهديني حملها مما لذ وطاب من الثمر المشتهى. في الصباح أتفقدها ورقة ورقة وإن وجدت فيها مرضاً أداويها، وحين تعطش أسقيها بحب فأرتوي. أمهد لها فراشها لتمدد جذورها في التراب فتعلو وتكبر. يقال إن ارتفاع الشجرة يعادل مدى تمدد جذورها تحت الأرض.
الشجرة لا تمنحك الثمر فقط بل الظل أيضاً فيهرب الحر. لا أجمل من أن تجلس على التراب في ظل شجرة. كلما دنوت من الأرض علوت، إنها أمنا التي لا تبخل ولا تهرم.
في مراحل العمر الأولى، مرحلة العمل والدوام و..الملعونة الساعة التي تتحكم في حياتك، لا تجد وقتاً للشجر ولا للظل والثمر. تمشي على إسفلت وتنام بين أسمنت ولا تطهر قدميك بالتراب الذي منه خلقت.
في مرحلة التقاعد والتحرر من العقارب، عقارب الساعة والساسة والمنافسة، تكتشف كم فاتك من جمال الحياة، من بحر لم تتمتع بزرقته وموسيقى موجه، ومن تلك القبلات تطبعها النوارس على خد الماء. لم تكن تتمتع بالشمس تغتسل صباحاً من شرق البحر، ومساءً تغطس غربه لتضيء الجهة الأخرى من الكون.
التقاعد لا يعني «مت قاعد» كما يفهمه السوداويون. أولئك الذين يكتفون أيديهم ويقولون «يللا حسن الختام». انه حياة جديدة لتلحق ما فاتك من حياة، من كتب لم تقرأها، من علم لم تتعلمه، من أماكن لم تزرها، من جمال لم تتمتع به، من رياضة لم تمارسها و..من شجر لم تزرعه وظل لم تستظل به.
كلما كبرنا نجد الأمور أصغر مما كنا نظن. أن التسامح يريح القلب، أن التنافس لم يكن ليأخذ كل هذا الوقت والجهد لو أتقن كل منا عمله. وأننا خلقنا لنحيا لا لنعيش فقط!