طالبان.. عبر الجغرافيا وتجارب «المراهقة».. بقلم: عبدالمنعم علي عيسى

طالبان.. عبر الجغرافيا وتجارب «المراهقة».. بقلم: عبدالمنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأربعاء، ٤ أغسطس ٢٠٢١

تبدو حركة طالبان الأفغانية مدركة جيداً لمرامي قرار الولايات المتحدة القاضي بانسحابها من بلادها الذي بدأ شهر أيار الماضي والمقدر له أن يتم فعله مطلع شهر أيلول المقبل، بل تبدو مدركة أيضاً لكل «الأسافين» التي تريد واشنطن دقها في منطقة ما انفكت تبدي هشاشة جيوسياسية كانت مفرطة على مدى العقود الأربعة المنصرمة، أما هشاشتها فهي تتأتى من عوامل عدة لعل أهمها، عدم قدرة السلطات المتعاقبة في كابول على فهم حقائق الجغرافيا التي راحت تتلاشى تأثيراتها في صنع القرار لمصلحة عوامل التاريخ الذي كانت «قراءاته» قد أفضت لولادة كيان تناحري في محيطه بدرجات قصوى، ومنها أيضاً إخفاق تلك السلطات في وضع عربة التنمية على سكتها الصحيحة الأمر الذي كانت له تداعيات فكرية ومنهجية قادت نحو مزيد من التطرف الذي وصل إلى حلم ضرب «الهيبة» الأميركية في عقر دارها، ومن حيث النتيجة أدى ذلك إلى زحف القوتين العظيمتين باتجاه المعاقل الأفغانية مرتين في مدة لا تزيد عن ربع قرن، كان البادئ منها التدخل السوفييتي أواخر العام 1979، والتالي نظير له أميركي أواخر العام 2001، والتدخلان، وإن أثبتا أن الجغرافيا الأفغانية عصية على الترويض، فإنهما أديا إلى مراكمة المزيد من الفوضى والمزيد من التطرف الذي راحت شرائحه تشكل عصب المجتمع الأفغاني، ولا أدل على ذلك من أن الأول، أي السوفييتي، كان قد أدى إلى إكساب الوصول الطالباني لسدة السلطة سرعة صاروخية لم يفصل بينها وبين التأسيس سوى عامين أو هي تزيد قليلا، كان ذلك مؤشراً على فعل خارجي من النوع المحفز لولادة التطرف، على الرغم من أن «الولادة» كانت تتناغم تماماً مع الميول التي كانت تبديها شرائح واسعة من الأفغانيين بفعل عوامل عدة يتداخل فيها القبلي مع المذهبي، وكلاهما مع قساوة الطبيعة، هذه الميول تضاعفت بشكل كبير في أعقاب الغزو الأميركي خريف العام 2001، حتى باتت تمثل قوة زخم كبرى في اندفاعة الحركة الراهنة، فالعديد من التقارير تقول إن القوات الأفغانية لا تبدي أدنى مقاومة أمام تقدم قوات طالبان التي تسجل بدورها تمددا سريعا، ومثل هذا لا يمثل انعكاسا لميزان القوى القائم ما بين الحركة والسلطات الأفغانية، التي لا تزال إلى اليوم تتلقى دعماً لوجستياً من قبل قوات «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة فحسب، وإنما يمثل انعكاسا، بدرجة أكبر، لانزياح الشارع الأفغاني تجاه وصول طالبان إلى السلطة التي يرى فيها ذلك الشارع مشروع مقاومة لغزاة دنسوا أرض بلادهم.
بالعودة إلى دروس التجارب التي تبدي طالبان تفهمها لها بدرجة أكبر مما كانت عليه في السابق، تجهد الحركة اليوم للقيام بجهد سياسي كبير جنبا إلى جنب مع الجهد العسكري الذي يبدو ممتلكا لزخم لم يعد ممكنا الوقوف بوجه تقدمه، فاستعادة السلطة المفقودة خريف العام 2001 بات تحصيل حاصل، والمؤكد هو أن واشنطن هي أكثر المتحمسين لتلك الاستعادة انطلاقا من أنها كفيلة بخلق واقع منغص لكل من الصين وروسيا وإيران الذين من المفترض أن يجمعهم حلف «المتضررين» الذي ما انفكت روابطه تشتد بفعل التداعيات المحتملة للانسحاب الأميركي، فيما أطراف «الحلف» باتت مؤمنة بأن طالبان اليوم هي غير طالبان الأمس، وفي المقارنة تبدو الأخيرة أكثر قدرة على ملامسة «الجمر» الذي تمثله مصالح الخارج في دواخل الكيان، ما يجعلها أكثر استعدادا للترويض خصوصاً في محيطها الذي يمثله حلف المتضررين.
من بين كل الوفود التي أرسلتها الحركة باتجاهاتها الأربعة نحو كل من موسكو وطهران وإسلام آباد التي رفضت طلباً تقدمت به حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني، يقضي بتدخل عسكري باكستاني بهدف وقف تقدم طالبان، من بين كل تلك الوفود كان الوفد الذي زار بكين أواخر شهر تموز الماضي برئاسة عبد الغني بزادر الذي يشغل منصب نائب رئيس الشؤون السياسية في الحركة، وهو منصب يعادل تماما منصب وزير الخارجية في الأنظمة العالمية، هو الأهم، إذ لطالما كانت الحركة تنظر اليوم إلى الصين على أنها تقف اليوم في الوضعية نفسها التي وجد الاتحاد السوفييتي نفسه فيها أواخر العام 1979 والتي قادته إلى غزو كان ذا تداعيات باهظة التكاليف، ظهر ذلك عبر البيان الصادر عن وزارة الخارجية الصينية الذي جاء فيه أن الوزير وانغ بي طلب من محاوره، الأفغاني، رسم خط أحمر بين طالبان وبين المنظمات التي تدرجها بكين على لوائح الإرهاب لديها، وعلى رأسها «الحركة الإسلامية لتركستان»، ثم أشار البيان إلى أن وفد طالبان كان قد أكد في لقاءاته أن «الأراضي الأفغانية لن تستخدم ضد أمن أي بلد كان»، تجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة كانت قد استبقت تلك الزيارات، وتحديدا المحطة الصينية منها، بموقف لافت عندما أعلن المتحدث باسمها ذبيح اللـه مجاهد 22 تموز بأن «أفغانستان دولة مستقلة وترفض وجود القوات التركية على أراضيها بما فيها مطار كابول بحجة ضمان أمن المطارات»، والقول هنا يلحظ فيه إرسال طمأنات لبكين تجاه دور تركي بدعم أميركي تحاول أنقرة بلورته في هذه الآونة، ومن خلاله تسعى الأخيرة إلى التمدد باتجاه كابول، الأمر الذي تنظر إليه بكين على أنه فعل يهدد أمنها القومي انطلاقا من العلاقة القائمة بين أنقرة والإيغور الصينيين.
طالبان اليوم تبدو في مرحلة إجراء مقاربات جديدة لعاملي الجغرافيا والتاريخ، وهي تبدي ميلاً في إرسال رسائل عدة في اتجاهات من يهمهم الأمر، ومفادها أن التطرف هو ضرورة لتماسك الحركة ولا علاقة له بالسياسات التي يمكن أن تنتهجها الحركة والتي ستكون أكثر مرونة.