دروس أفغانية.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

دروس أفغانية.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٨ أغسطس ٢٠٢١

لم يكن عمق المشهد الذي تثبتت عنده العديد من الفضائيات، كما وتناقلته أيضاً كبريات الوكالات العالمية، عصر يوم الأحد 15 أب الجاري، في الصورة التي ظهر فيها أحد قادة طالبان وهو جالس على كرسي الرئيس السابق أشرف غني الذي غادر كابل قبل 24 ساعة، كما يبدو، من هذا التاريخ الأخير متوجها إلى طاجيكستان التي قال إنها لن تكون وجهته النهائية، نقول لم يكن عمق المشهد يكمن في تلك الصورة، على أهميتها ودلالتها التي تشير إلى انقلاب جيوسياسي من العيار الثقيل ستكون له تداعيات في محيطيه الأقرب فالأبعد وصولاً إلى غرف «الناتو» عينها، وإنما كان ذلك العمق في الصورة التي التقطت لحوامة أميركية وهي تحط فوق السفارة الأميركية في العاصمة الأفغانية بهدف إجلاء دبلوماسييها بعد أن أعلنت بلادهم أن حلولها قد استنفدت، إذ ماذا تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت، فهي خلال عشرين عاماً من احتلالها لأفغانستان دربت جيشا قوامه 300 ألف مقاتل وصرفت عليه العشرات من مليارات الدولارات، وكل هذا غاب عن الوجود في غضون أربع وعشرين ساعة، وهي المدة التي كانت تفصل ما بين استيلاء حركة طالبان على قاعدة بالغرام، 50 كم عن كابل، يوم 14 آب، وبين دخولها المفاجئ إلى العاصمة عصر اليوم الذي يلي هذا اليوم الأخير.
المشهد مكرور، وهو يغوص عميقاً في الذاكرتين السياسية والجمعية الأميركيتين، ففي يوم 30 نيسان من العام 1975، أي اليوم الثاني والأخير لعملية «الرياح المتكررة» التي أطلقها الأميركيون بهدف إجلاء دبلوماسييهم من فيتنام، حطت حوامة أميركية فوق سطح السفارة الأميركية بسايغون التي كان ثوار فيتنام الشمالية «الفيتكونغ» على بعد بضعة كيلومترات منها، لكن من المؤكد أن الصورة الأخيرة، أي تلك المرتسمة يوم 15 آب الجاري، هي الأشد إيلاما ولسوف تغوص في تينك الذاكرتين سابقتي الذكر بدرجة تفوق فيها ذلك الغوص الذي استدعاه الهروب الأميركي من فيتنام، وشدة الإيلام هنا تتأتى من أن فعل الهروب الأخير، أي من سايغون، حتى وفق المعايير الأميركية، كان أمام حركة مقاومة شعبية متأصلة على أرضها، وهي تدافع بكل ما أوتيت من قوة لمواجهة غزو خارجي استمر لعشرة آلاف يوم، رمت فيها القاذفات الأميركية حمما تعادل في قوتها ألف ضعف لذاك الذي رمته فوق ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين صيف العام 1945، أما فعل الهروب الأخير، الذي نقصد به هنا الهروب من كابل، فهو كان أمام حركة إرهابية وفق تصنيف المجتمع الدولي، وكذا وفق تصنيف الأميركيين أنفسهم، وما سيزيد من شدة الإيلام عندما ستتسرب الوثائق التي تؤكد أن واشنطن كانت قد تقدمت بطلب إلى حركة طالبان في اليوم الأخير من المفاوضات المنعقدة في الدوحة الذي سبق سقوط كابل، تأمل فيه تأجيل دخول الحركة إلى هذي الأخيرة لمدة أسبوعين، لكي يتم التوصل إلى اتفاق على تشكيل الحكومة، والخبر الذي يشكل سابقة خطيرة، قياساً للتصنيف الأميركي لطالبان، كانت صحيفة «وول ستريت جورنال» قد سربته صبيحة 15 آب، وما يجعلنا نعتقد أن تلك الوثائق سوف تتسرب هو أن طالبان هي نفسها من سيقوم بتسريبها في مسلسل الصدام، غير الدامي هذه المرة، والحاصل لاحقا حتما ما بين واشنطن وبين الأخيرة التي أثبتت أنها عصية على الترويض. فيما تباشيره لاحت على الفور مما يمكن تلمسه من التحذيرات التي أطلقتها الأولى محذرة فيها طالبان من استعادة احتضانها لتنظيم القاعدة الذي تتهمه واشنظن بتنفيذ هجمات أيلول 2001 في نيويورك.
الدروس التي قدمتها الحرب الأفغانية على امتداد ما يزيد عن أربعة عقود كثيرة، وعبرها أكثر من أن تعد أو تحصى، لكن الأهم والأول منها، هي أن من يجعل من استقلال بلاده وسيادتها ورقة يقامر بها على طاولات القوى الأجنبية، فسيكون كمن قرر فتح باب الجحيم على وطنه أولاً، ثم على شخصه ثانياً، ومصيره ليس مجهولاً، وإنما محتوم، ألم يحدث هذا مع محمد نجيب اللـه العام 1996 الذي وإن كان يحمل مشروعاً يسارياً جامعاً إلا أن الأفغان، بغالبيتهم، لم يجدوا فيه سوى حاكما جاء على ظهر دبابة سوفييتية؟ ثم ألم يحدث هذا مع أشرف غني الذي فر هاربا تاركا الجمل بما حمل بعد أن أيقن أن البقاء يعني لقيان المصير الذي لقيه سلفه نجيب الله! ولربما يكون من المفيد هنا أن نذكّر بصور كان قد التقطها أحد المصورين يوم 30 نيسان 1975 عندما أقلعت الحوامة الأميركية لمرة أخيرة من على سطح السفارة بسايغون حاملة آخر جندي أميركي، والصور التي ذاع صيتها بشكل كبير كانت ثلاثاً، الأولى لشخص فيتنامي جنوبي وهو يتسلق السلم الذي يستخدمه الجنود عادة للصعود إلى الطائرة، أما الثانية فهي لمسؤول أمن السفارة الأميركية وهو يقوم بركل «المتسلق» بحذائه طارحاً به أرضاً، مع إشارة العديد من التقارير إلى أن مسؤول أمن السفارة كان قد تعرف على ذلك الشخص الذي لم يكن سوى رئيس البرلمان الفيتنامي الجنوبي الذي نصبه الأميركيون أنفسهم، أما الثالثة فكانت لهذا الأخير وآثار الرعب تعتري وجهه بعدما سمعت أذناه هدير «الفيتكونغ» الذين باتوا على مقربة منه.
الدرس الثاني، والذي لا يقل أهمية عن الأول، هو أن أعتى الإمبراطوريات يمكن لها أن تهزم خارج أراضيها خصوصاً إذا ما واجهت مقاومة تحظى بحالة احتضان شعبي وازنة، لأن الجيوش، خارج حدودها، تفقد أكبر مقومات القدرة على الانتصار والتي تتمثل بفقدان «مشروعية» الحرب اللازمة لكسب الحروب جنباً إلى جنب مع عوامل أخرى.
نحن هنا لا نريد إعلان ابتهاجنا بهزيمة الأميركيين أمام حركة دموية متطرفة بل و«قرووسطية» من الغرابة أن يحتضنها هذا الزمان، لكن أليس من حق ضحايانا في سورية الذين قضوا إما بفعل أميركي مباشر، أو بأيدي «وكلاء» للأميركيين في أحايين أخرى أن يبتهجوا؟
ما يعنينا نحن الآن من الحدث، هو أن يمثل رسالة لا لبس فيها إلى أولئك المراهنين على «الأميركي» الذي لن يتردد في ركلهم بحذائه عندما تحين اللحظة المناسبة، أو عندما يصبحون عبئاً عليه، بعد أن كانوا جسر عبور لمصالح سواء نجح في تحقيقها، أم يئس من نجاحها.