ما العمل؟.. بقلم:أحمد مصطفى

ما العمل؟.. بقلم:أحمد مصطفى

تحليل وآراء

الخميس، ١٦ ديسمبر ٢٠٢١

ربما يكون المسؤولون عن السياسة النقدية في دول العالم هم أكثر من يجدون أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، على الرغم من اهتمام العالم منذ العام الماضي بآخرين يتصدون لوباء كورونا في قطاعات مختلفة. حتى بين المتابعين للأخبار الاقتصادية بشكل عام، فالأبرز هو قرارات الحكومات بتقديم الدعم والتحفيز للاقتصاد منذ بدأت أزمة وباء كورونا مطلع العام الماضي. وعلى الرغم من أن القدر الأكبر من التيسير على الاقتصاد والأعمال هو نتيجة سياسات البنوك المركزية، فإن وضعها ككيانات مستقلة عن الحكومات، يجعلها بعيدة عن دائرة الاهتمام العام المباشر.
 مع ذلك، فالسياسات النقدية التي اعتمدتها البنوك المركزية حول العالم كان لها الأثر الأكبر في قدرة الاقتصاد على تحمل أزمة وباء كورونا؛ ذلك من خلال ما عُرف ببرامج «التيسير الكمي» والإبقاء على أسعار الفائدة قرب الصفر تقريباً في أغلب الدول الرئيسية. وإذا كان خفض الفائدة حافظ على سوق الائتمان نشطة، نتيجة الأموال الرخيصة، فإن التيسير الكمي أسهم في توفير السيولة في الأسواق عبر شراء سندات الدين الحكومي والخاص.
 على الرغم من أن الهدف الرئيسي للبنوك المركزية هو المحافظة على استقرار الأسعار والقيمة في الاقتصاد، أي بالتحديد الإبقاء على معدلات التضخم عند مستوى معقول، فإنها منذ الأزمة المالية الأخيرة في 2008 أصبحت جزءاً مهماً من الإنقاذ الاقتصادي؛ وذلك عن طريق الأدوات التي لديها: ضخ السيولة وخفض أسعار الفائدة. ولم تكد البنوك المركزية تعود إلى مهمتها الأساسية، بغض النظر عن النمو الاقتصادي، حتى دخل العالم في أزمة وباء كورونا. وضخت البنوك المركزية مئات مليارات الدولارات عبر برامج «التيسير الكمي»، وأبقت على كُلفة الاقتراض في أدنى مستوياتها.
 ومع نهاية عام الوباء، وإغلاق الاقتصاد، عاد النشاط وبدأت مرحلة التعافي الاقتصادي. وصاحب التعافي ارتفاع معدلات التضخم. وبعيداً عن قلقل المستثمرين والمتعاملين في أسواق الأسهم والأوراق المالية من ارتفاع معدلات التضخم، الذي لا يعني لهؤلاء سوى التحسب من ارتفاع أسعار الفائدة وبالتالي زيادة كُلفة الاقتراض، فإن ارتفاع الأسعار بوتيرة غير مسبوقة أصبح يكوي الجماهير العادية في استهلاكهم اليومي.
في بداية مطلع هذا العام، كان رأي أغلب البنوك المركزية حول العالم أن موجة التضخم الهائل تلك مؤقتة، وأنها نتيجة «عرضية» للانكماش الاقتصادي في عام الوباء 2020. لكن مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم، على الرغم من تباطؤ النمو الاقتصادي، أصبحت البنوك المركزية أمام معضلة حقيقية؛ وذلك هو الوضع الذي لا يحسدون عليه وهم يتدبرون: ما العمل؟
 واضح الآن أن التضخم المرتفع ليس مسألة مؤقتة وعرضية، وأنه مستمر ودائم لفترة. وبما أن مهمة البنوك المركزية الأساسية هي ضبطه، فعليها أن تبدأ في «تشديد» السياسة النقدية برفع أسعار الفائدة، والتوقف عن ضخ السيولة. لكن الانتعاش الاقتصادي الهش الذي بدأ مطلع عام التعافي الحالي يفقد زخمه، وبدأت أرقام النمو تتراجع إلى الحد القريب من الخط الفاصل بين النمو والانكماش. ثم هناك القلق العالمي من متحور فيروس كورونا الجديد، وبدأت بعض الدول تتخذ إجراءات وقائية تذكّر بفترات إغلاق الاقتصاد السابقة. ويهدد هذا التوجه بالقضاء على فرص الانتعاش الاقتصادي، لكنه في الوقت نفسه يزيد ارتفاع معدلات التضخم.
 إذا سارعت البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة الآن، فهي تغامر بالإسهام في احتمال الركود الاقتصادي، كما أن ذلك قد لا يحّد من ارتفاع التضخم الذي تهدف إليه. 
 فالواقع أن قدراً كبيراً من ارتفاع الأسعار لا يستند إلى معادلة العرض والطلب، كما هي الحال في الأحيان العادية؛ بل إن اختناقات سلاسل التوريد هي العامل الأساسي وراء ارتفاع التضخم. وبالتالي، فتشديد السياسة النقدية لن يفيد كثيراً، لأن تلك العوامل خارج نطاق كل اقتصاد مسؤول عنه البنك المركزي لبلده.
 في الوقت نفسه، لا يمكن للبنوك المركزية أن تتخلى عن مهمتها الرئيسية، وهي استخدام ما أوكل إليها من تقرير السياسة النقدية لموازنة الأسعار والقيمة في الاقتصاد. ولو تصرفت البنوك المركزية «كما الكتاب» في مواجهتها ارتفاع معدلات التضخم، فإن احتمالات الركود الاقتصادي العالمي كبيرة جداً. وستتضاعف المصيبة على العالم إذا ظل التضخم مرتفعاً وبدأ الاقتصاد في الانكماش، فهنا يدخل الاقتصاد ما يُسمى ب«الركود التضخمي»؛ وذلك خطر أكبر قد يجعل من أزمة وباء كورونا أخطر من الأزمة المالية العالمية الأخيرة.