أميركا: بداية عصر الانكفاء.. بقلم: علي أحمد ملي
تحليل وآراء
السبت، ٢٣ يناير ٢٠٢١
لم يكن يدرك الكاتب والمؤرّخ الأميركي، جيمس تراسلو أدامز، عندما تحدّث عن الحلم الأميركي في كتابه «الملحمة الأميركية»، عام 1931، بأنّ ما يتحدّث عنه هو ضربٌ من ضروب الخيال الذي سيتبدّد. فالحلم بالأرض التي يجب أن تكون فيها الحياة أفضل وأكثر ثراء لكلّ الناس، تحوّل إلى ما يشبه الكابوس بالنسبة إلى الذين سعوا يوماً للانضمام إلى الأمة الأميركية.
الولايات المتحدة التي كانت، منذ مطلع القرن التاسع عشر، تعتبر نفسها منارة الحرية والازدهار، لم تعد قادرة، في القرن العشرين، على إخفاء الأزمات الكامنة التي تتربّص بعقدها الاجتماعي وبكيانها السياسي. فهي، منذ التسعينيات، تواجه تحدّياً حقيقياً تمثّل في حركات المقاومة في الشرق الأوسط، الذي تحوّل عام 2000 إلى تهديدٍ وجودي لحليفتها الأبرز إسرائيل، بعد اضطرارها إلى الانسحاب من لبنان. حينها، تحوّل الجيش الذي لا يُقهر، إلى جيش من الممكن هزيمته ودحره من الأرض المقدّسة. وقد حُفرت هذه الأحداث عميقاً في وعي العرب والمسلمين، فشكّلت دافعاً لهم لمهاجمة العدو الأميركي والإسرائيلي، وكانت بعدها أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، التي استهدفت أميركا في عمق دارها.
استغلّت الولايات المتحدة هذه الأحداث الأخيرة، من أجل غزو أفغانستان في عام 2001، وبعدها العراق في عام 2003، حيث دخلت في مستنقع استنزاف ستظهر تداعياته، في المستقبل، ليصبح عاملاً أساسياً يضاف إلى كثيرٍ من العوامل التي تهدّد بقاء الحلم الأميركي بحلّته البرّاقة.
وبحسب دراسة للباحثة نيتا سي كراوفورد، في معهد «واتسن» التابع لـ«جامعة براون»، فإنّ الكلفة الإجمالية للحروب الأميركية في الشرق الأوسط، بلغت 6.4 تريليون دولار منذ عام 2001 حتى عام 2020. وتشير كراوفورد إلى أنّ هذه الحروب ترتّبت عليها نفقات كبيرة، أوصلت بطريقة ما إلى العجز، في حين أنّ العبء الإجمالي للميزانية لحروب ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر سوف يستمر في الارتفاع. علاوة على ذلك، من المرجّح أن تظلّ الزيادات في الميزانية الأساسية للبنتاغون المرتبطة بالحروب، ما يؤدي إلى تضخيم الميزانية العسكرية على المدى الطويل، وهذا يعني زيادة الأعباء والضرائب على كاهل المواطن الأميركي التي بلغت، خلال السنة المالية 2018، 7.623 دولاراً لكلّ دافع ضرائب. هكذا، لم تكن البنية المالية في الولايات المتحدة بمنأى عن الانهيارات، فسياسة الحروب التي اعتُمدت بعد 11 أيلول/ سبتمبر، كانت من تبعاتها - بحسب جوزيف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي - أزمة عام 2008 التي انفجرت في أميركا ثمّ امتدت إلى دول العالم، لتشمل الدول الأوروبية والآسيوية والخليجية، فضلاً عن الدول النامية التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأميركي.
عام 2016، طفت مشاكل أميركا إلى السطح، مع وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة، وشكَّل وصوله إلى هذا المنصب تعبيراً عن أزمة اقتصادية وسياسية وأخلاقية صنعتها النيوليبرالية، فهو لم يمارس السلطة، بل امتطاها. أفصح الرجل عن كلّ المُضمَرات في النظام الرأسمالي، فكشف العنصرية والكراهية وازدراء الفقراء، وهي ثوابت حرصت المنظومة الأميركية على إخفائها. مثّل ترامب لحظة انهيار القيَم الأخلاقية في مجتمع سياسي أميركي غطّى جرائمه بحجاب قيَم حقوق الإنسان والديموقراطية. قضى أربع سنوات في البيت الأبيض، تحطّمت خلالها مفاهيم الديموقراطية التي قام على أساسها الحلم الأميركي، ورخاء العيش والأمان الموعود لكلّ من ينتسب إلى الأمة الأميركية. برزت في عهده العنصرية بأبشع أشكالها في أكثر من مناسبة، وانفجر «الغضب الأسود» عندما قتلت الشرطة المواطن جورج فلويد، في حدثٍ أعاد إلى أذهان الأقليات في أميركا عصور العبودية وحركات الانتقام التي شنّها أصحاب العرق السامي (الأبيض) بحقّهم، وخصوصاً بحقّ السود.
سقط ترامب الرجل الأبيض، الذي جاء خلفاً لأوّل رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة، بتراكم الأزمات التي كان آخرها طوفان «كورونا»، الذي اجتاح الولايات المتحدة والذي أظهر عيوب القطاع الصحّي فيها بشكل فاضح جداً.
كانت الأزمة الأميركية تتراكم منذ عقود، وقد أدى «كوفيد- 19» فقط إلى تسريع المسيرة إلى نهايتها الدراماتيكية.
أمّا من الأمور المركزية لتفسير هذه الأزمة، فهو تطوّر التفوّق الأبيض، الشرط الذي استغلّه الحزب الجمهوري بنجاح منذ أواخر الستينيات، عبر ما يُسمى بـ«الاستراتيجية الجنوبية»، لجعل الحزب ممثّلاً عن الغالبية المهدّدة بشكل لا شعوري من قبل التوسّع الديموغرافي والثقافي لأميركا غير البيضاء. وكانت المساهمة الإضافية في ترسيخ الجمهوريين لمعقلهم السياسي الأبيض، تخلّي الحزب الديموقراطي عن قاعدته من الطبقة العاملة البيضاء في طريق الترويج للسياسات النيوليبرالية. هذه الأخيرة كانت مركزية في الأزمة الاقتصادية المتزامنة، فقد قدّمت المبرّر لشحن القدرة التصنيعية والوظائف إلى الصين وأماكن أخرى في الجنوب العالمي، ما أدّى إلى تراجع التصنيع السريع، مع انخفاض وظائف التصنيع من حوالى 18 مليوناً في عام 1979 إلى 12 مليوناً في عام 2009.
قبل وقت طويل من أزمة وول ستريت، في عام 2008، تمّ نقل الصناعات الأميركية الرئيسية، مثل الإلكترونيات الاستهلاكية والأجهزة وأدوات الآلات وقطع غيار السيارات والأثاث ومعدّات الاتصالات والعديد من الصناعات الأخرى التي كانت عملاقة نظام الإنتاج العالمي الرأسمالي، إلى الصين. ومع عمليات التصنيع ذات الأجور المرتفعة ووظائف ذوي الياقات البيضاء التي تمّ إرسالها إلى مكان آخر، تحوّلت الولايات المتحدة إلى واحدة من أكثر البلدان غير المتكافئة في العالم.
هذا الواقع تلقّفه ترامب، فجعل مناهضة العولمة محور برنامجه الانتخابي لعام 2016. ومن خلال ربط مناهضة العولمة بالخطاب المناهض للمهاجرين ونداءات العنصرية ضدّ السود، كان قادراً على اختراق الطبقة العاملة البيضاء التي أعطت، بالفعل، إشارات إلى أنها مستعدّة للتأثّر العنصري في وقت مبكر من عهد رونالد ريغان في الثمانينيات.
جملة التناقضات في البلاد جعلت الحلم الأميركي يفقد بريقه. بالنسبة إلى اليسار هو يُذكر الآن فقط بعبارات ساخرة، كعصر ذهبي ضائع من الحراك الاجتماعي النسبي الذي دمّرته السياسات النيوليبرالية المناهضة للعمّال. وبالنسبة إلى اليمين المتطرّف، فإنّ الحلم الأميركي هو الحلم الذي سلبه الليبراليون من البيض، من خلال جميع أنواع برامج العمل الإيجابي ومنحها للأقليات العرقية والإثنية.
في الواقع، كان النص الفرعي للثورة «الترامبية المضادّة» هو استعادة الحلم الأميركي، والآفاق المشرقة للصعود الاجتماعي - لأصحابها الشرعيين - أي للأميركيين البيض ولهم فقط. عندما استولى دونالد ترامب على الإرث الأيديولوجي لليمين، تمّ إخراج الديموقراطية نفسها ممّا كان من المفترض أن يكون فريداً بالنسبة إلى الولايات المتحدة. في خطابه المعادي للمهاجرين والمؤيّدين للشرطة في المؤتمر الوطني الجمهوري، في آب/ أغسطس 2020، لم يتم ذكر كلمة «الديموقراطية» مرّة واحدة، وهذا ما كان فريداً بالنسبة لأميركا.
مع تحريض ترامب على مقاومة الديموقراطية، وسير قاعدته الجمهورية على لحنه، كما يتّضح من اقتحام مبنى «الكابيتول»، يُتوقع أن تكون السنوات الأربع المقبلة حقبة من الصراع السياسي غير المقيّد. ومع تزايد عجز السياسيين المدنيين عن كسر الجمود السياسي، فقد نشهد حضوراً أكبر للقيادة العسكرية على حساب السلطات المدنية.
ما أحدثه ترامب من تخريب في التقاليد السياسية الأميركية، في الأشهر القليلة الماضية فقط، بدعمٍ لا ينقطع من قاعدته الجماهيرية الكبيرة، قد تكون نتيجته أخذ الولايات المتحدة تدريجياً إلى نموذج تشيلي. هناك انتهى التقليد الفخور بعدم التدخّل العسكري في السياسة، بانقلاب عسكري في عام 1973، بعد مقاومة الجناح اليميني للرئيس المنتخب بشكل قانوني سلفادور أليندي، والتي أوقفت العملية الديموقراطية وأدت إلى عنف في الشارع. حربٌ حرّضت عليها العصابات اليمينية شبه العسكرية، مثل Patria y Libertad التي تشبه اليوم «الأولاد الفخورين» (proud boys)، و«النازيين الأميركيين» و«كو كلوكس كلان».
وبناء على ما تقدّم، يمكن القول إنّ الإمبراطورية الأميركية التي تواجه مستويات مختلفة من التحدّيات، إن على الساحة الدولية عبر صعود لا يقاوَم للصين وعودة لروسيا وبروز قوى دولية صاعدة مثل الهند والبرازيل وقوى إقليمية مشاكِسة مثل تركيا وإيران، أو على مستوى تفجُّر تناقضاتها الداخلية العرقية والاقتصادية والاجتماعية، كلّ ذلك يجعلها تترنّح، لا بل تهتز وتسلك طريق الانحدار. وليس طيّ صفحة ترامب نهاية المشهد، بل هو يؤذن بحقبة انتقالية من عصر الإمبرطورية إلى الانكفاء والانشغال بأوضاعِها الداخلية.