إلاراءة و مراكز اللقاء الأسري

إلاراءة و مراكز اللقاء الأسري

الأزمنة

الاثنين، ١٧ أغسطس ٢٠٠٩

صراخ ممزوج بجهشات بكاء، وغصات شوق وحنين وأسى، في عينيه نظرات توسل ورجاء، قلبه المشطور بين الأب والأم، أدماه الحرمان من أدنى حقوق الطفولة... العيش في كنف أسرة، وفي حضن أم وأب وإخوة.

لايكفي هذا الطفل أنه ابن طلاق، وثمرة زواج كتب عليه الفشل، فهو الآن يخوض صراعاً جديداً هو ضحيته الأولى والأخيرة والوحيدة، فالأم غاضبة من الأب، والأب مقهور من الأم، ليبدأ الاثنان بالانتقام من بعضهما بالطفل البريء.

فقد كتبت الأقدار على هذا الطفل أن يعيش تحت رعاية أحد أبويه ليرى الطرف الثاني بحكم محكمة في مكان يدعى مركز اللقاء الأسري أو كما هو متعارف عليه بين العوام (الإراءة).

مركز الإراءة: لقاء أسري لا إنساني:

الإراءة من الحقوق الدورية الهادفة إلى استمرار التواصل والتعاطف بين أحد الوالدين والطفل الذي يكون في حضانة الآخر!

ومن هنا تكون الإراءة متممة لحق الحضانة، فعندما تكون الحضانة للأب، فللأم حق رؤية الأطفال المحضونين في مركز اللقاء الأسري المخصص لهذا الغرض (الإراءة(.

ذاك المكان الموحش، المبكي، المضني، الذي يفتقد للهوية ولأقل الظروف والمتطلبات الإنسانية التي يجب أن يلتقي فيها أفراد الأسرة الواحدة، مكان بارد يبكي الحميمية.. عندما تدخل إليه تصاب بالذهول والفجيعة، طفل في هذه الزاوية والكآبة والحزن تملأان وجهه، والده في الخارج ينتظر الأم التي لم تسمح لها ظروفها بالمجيء لرؤية ولدها، فتمر ساعة وساعتان وربما ثلاثة أو أكثر، والطفل في نفس الزاوية وجهه مملوء بعلامات الملل من الانتظار الطويل ممزوج بشوق ولهفة لرؤية والدته التي لم تأتِ.

طفلان آخران متعانقان والدموع تملأ وجنتيهما أمام مشهد كفيل بخنق أدنى أمل بالتفاؤل بمستقبل خال من العقد والألم.. الأب والأم على مرأى ولديهما وعلى مسمعهما يتشاجران ويتبادلان أقسى الكلمات والعبارات، والغرباء يفرّقون بينهما.

في غرفة أخرى تكاد تضيق بمن فيها تشاهد أناساً واقفين أحدهم يضم طفله الرضيع الذي جاء به جدُّه إلى مركز الإراءة الذي تكفَّل بإحضاره ليقضي على أي فرصة للقاء ابنته بطليقها.

في نفس الغرفة جدَّة وضعت ابن ابنتها على حضنها تلاعبه وتطبطب عليه لأن أمه المتزوجة لا تستطيع الحضور لرؤية ابنها من طليقها وزوجها الأول.

أم أحضرت كيساً مملوءاً بالحلوى لأطفالها الذين لم ترهم منذ أسبوع في نفس المكان على الرغم من أنهم في عمر يسمح لها القانون بحضانتهم إلا أن عائلتها ترفض أن تتكفل بتربية أطفال لا يحملون اسمهم وهم بالنهاية أولاد رجل غريب ناسين أنهم أولاد ابنتهم وأولادهم.

ولايمكننا أن نغفل عن الاستقبالات النسائية والثرثرات الأنثوية المليئة بعقد المطلقات والأرامل التي تكون على مسمع الأطفال.

وفي مكان مكشوف بمركز الإراءة يوجد ألعاب أطفال يبدو أنها لم تعد تعني شيئاً لأطفال حرموا من راحة البال، أرهقتهم هموم الكبار فباتت الألعاب آخر ما يشغل تفكيرهم.

وأصعب موقف ممكن أن يحدث في الإراءة هو لحظة وداع الطفل لأمه أو أبيه بعد انتهاء اللقاء القصير نسبياً وغير الكفيل بإطفاء أشواق طفل لطالما عدَّ الليالي والأيام والساعات وانتظر اليوم الموعود لرؤية أمه أو أبيه.

للانتقام فقط:

على الرغم من الأثر السيئ الذي تخلّفه هذه المشاهد في نفسية الطفل وذاكرته، والذي يدركه الوالدان تماماً، إلا أن الهدف الأساسي الذي يشغل بال أغلبهم ويهمهم هو الانتقام من القرين الآخر أو الضغط عليه من دون الانتباه إلى الضحية الحقيقية، وهي الأبناء.

فمركز اللقاء الأسري هو آخر مكان يصلح لأن يكون لقاءً لأفراد الأسرة، ولو امتلك أطراف العلاقة قليلاً من الوعي والحكمة والرشد سواء الأب أو الأم أو الأخ أو الجد أو الجدة لوجدوا مكاناً أقلَّ ضرراً على هؤلاء الأبرياء سواء بيت أحد الطرفين أو بيت ثالث يتم الاتفاق عليه.

وأين المشكلة في حال ذهب الطفل الذي في حضانة أبيه ليقضي يوماً أو يومين مع أمه في بيتها ليتمتع بحنانها وأمنها.

 

من تحت الدلف لتحت المزراب

تشير إحصائيات العام 2007، إلى وجود (2000) دعوى تفريق – بعضها لم يصدر بها قرارات نهائية – أنجبت (600) حالة إراءة في مركز اللقاء الأسري في دمشق الذي تم تأسيسه في العام 1999.

فبعد أن كان ابن الطلاق يلتقي مع الطرف غير الحاضن سواء كان أباه أو أمه في عتمة أدراج مخافر الشرطة وفي بهو القصر العدلي... ولتوفير بيئة أكثر ملاءمة للطفل وأبويه، سعت وزارة العدل السورية وبدعم من منظمة اليونيسيف ومشاركتها والإشراف عليها وبتمويل من الحكومة السويسرية، إلى إيجاد مراكز للإراءة توزع على كافة المحافظات السورية...

السؤال الذي يطرح نفسه هل هذه المراكز المليئة بالمشاجرات والتوتر والصراخ أخف ضرراً على نفسية الطفل من المخافر والمحاكم وأروقة قصر العدل؟

 

في المركز لا محالة

تختلف مدة "الإراءة" ونوعها بحسب عمر الطفل وحكم القاضي، إذ يجبر بعض الآباء على رؤية أبنائه داخل المركز في حين تسمح المحكمة لبعضهم الآخر باستلامهم من المركز وتمضية بضعة ساعات معهم، في البيت أو في أي مكان آخر، وإعادتهم مجدداً. وفي كلا الحالتين، يجد الأطفال أنفسهم مضطرين لدخول المركز لبعض الوقت ومشاركة أمثالهم المعاناة ذاتها.

تقول وفاء. و: أحضر إلى مركز الإراءة كل يوم خميس لاصطحاب ابنتي لتبقى معي حتى يوم السبت، ورغم أنني لا أبقى هنا أكثر من دقائق للتسليم والاستلام، فهي كفيلة بأن تصيبني بالإحباط والحزن فهذا المكان لايمت للإنسانية بصلة.

أما ابنة وفاء البالغة من العمر عشر سنوات فتقول: أكره هذا المكان جداً، أشفق على الأطفال الذين يبكون ويصرخون، أحزن لوضعي ووضعهم، كنت أتمنى لو يتفق أبي وأمي على اللقاء خارج هذا المكان فأين المشكلة إذا جاء أبي ليأخذني من بيت أمي؟ لكن جدي يرفض فقال لي إن الجيران سيتناولون أمي بالكلام السيئ.

مشاعر تخضع لدوام رسمي:

بعد وقوع الطلاق، وإذا لم يتوصل الأبوان إلى اتفاق فيما بينهما لحل مشكلة الإراءة (أين وكيف ومتى)، يلجأ الطرف طالب الإراءة برفع شكوى للمحكمة لإلزام الطرف الآخر بها، وهنا يقرر القاضي وقت الإراءة ومدتها ومكان تنفيذها بما يتناسب ومصلحة الطفل، ويؤخذ في عين الاعتبار إذا كان تلميذاً في المدرسة، أو كان رضيعاً أوطفلاً أو طفلة بما لا يتعارض مع ظروف الأبوين قدر الإمكان.

فإذا كان عمر الطفل من شهر إلى 9 أشهر، فإن مدة الإراءة لن تتجاوز الخمس عشرة دقيقة وبالمركز حصراً، وعندما يبلغ الطفل عامه الرابع تكون مدة الإراءة بما لا يقل عن الساعة ولا يزيد عن ثلاث الساعات، دون المبيت عند الطرف غير الحاضن والذي يحظر عليه إخراج الطفل من المركز، وهكذا حتى دخول الطفل عامه الخامس إذ يحق بعدها لهذا الطرف باستضافة الطفل في بيته ولمدة محدودة وهي ما اصطلح على تسميته بالإراءة المنزلية.

وهناك عدد كبير من الأطفال الذين يحكم لهم القاضي بالالتزام بالمركز.... وإذا أردنا غض الطرف عن ظروف المركز والحوادث والمواقف المؤلمة التي تتم فيه، ولنفرض أن المكان مملوء بالحب والوئام والهدوء.... يبقى لقاء الأولاد بأمهاتهم وآبائهم محصوراً ضمن أوقات الدوام الرسمي وبإشراف الموظف المختص في الدائرة.. وبإمكاننا تخيل الجرح النفسي الذي قد يصيب الطفل الذي يخضع مشاعره وعواطفه لأوقات دوام الدولة الرسمية.

 

أين الاختصاصيين؟

إذا سلمنا بأن المكان المناسب لالتقاء الأولاد بالطرف غير الحاضن هو مركز اللقاء الأسري، حيث يأتي الطفل مشحوناً بجرعة من الحقد على الطرف غير الحاضن، فيبدو غير قادر على استيعابه بسبب الغياب الطويل بين فترة ترك الطفل وطلب إراءته.

وفي أحيان أخرى يُحمّل الطفل بأفكار سوداء يزرعها الطرف الحاضن في بال الطفل على غير الحاضن، ما يجعله متوتراً ومستنفر الأعصاب طوال الوقت.. مما يدعي بشكل ملح وجود اختصاصي نفسي أو اجتماعي يلم بظرف كل طفل ويدرس حالته النفسية والاجتماعية أثناء إصدار قرار القاضي بالإراءة في المركز.. أو وجود مختص في مركز اللقاء الأسري نفسه ملتزم بالدوام وبأوقات وجود الأطفال ليساعد كل طفل ويؤهله نفسياً لتقبل الطرف غير الحاضن..، فيوجد عدد كبير من الأطفال يبدؤون بالبكاء لمجرد رؤية الطرف الثاني، وفي مرات عديدة يصرخون ويتفوهون بعبارات وكلمات توحي بالكره والاشمئزاز.

لا حياة لمن تنادي

كثيرة هي المقالات التي تناولت موضوع الإراءة في الصحف والمجلات، وكثيرة هي الندوات التي استضافت مهتمين ومتخصصين في العلوم القانونية والاجتماعية في مسعى لمعرفة تفاصيل المكان ولتوجيه نداءات تدعو لإيجاد مكان آخر أكثر حميمية وأصح نفسياً من هذا المكان.

إلا أن المعنيين لم يتقدموا ولا بأي خطوة لاتخاذ إجراءات مهما كانت بسيطة في سبيل تغيير جدي وواقعي بمواد القانون التي تخص الطفل.

 

ختاماً

العدل أصل الحكم! فهل كان القانون عادلاً عندما أوجد هذا المكان بهذه الظروف وأطلق عليه مركزاً للقاء الأسري!

أم أن الطفولة والمشاعر الإنسانية البريئة والراقية ستظل تحت حكم دساتير ومواد قانون دون دراسة النتائج النفسية والمجتمعية، فالأَوْلى أن نضع نصب أعيننا مستقبل أطفال الإراءة وكيفية تعاطيهم بكامل عُقدهم مع مجتمعات لا ترحم أمثالهم.

دارين صالح