الاستثمار في الواقع

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢ أبريل ٢٠٢٤

يبدأ في ترويض التطرف المتعدد الأشكال، وأهمه الديني المتشدد والأيديولوجي التعصبي، المنتشر في وقتنا الراهن بشكل مريب وملفت للنظر، والقلق الذي نشعر به اليوم اعتبره أكثر من حقيقي، يتعدى يومنا هذا إلى ما بعده وإلى ما ستخلفه أفكار هذا التطرف إن استمرت في التمدد ضمن مناخات غير مسبوقة، وضمن ردود أفعال لا يمكن التنبؤ بها، وفي حال عدم إدارته بالحكمة وبالمنطق، والسيطرة عليه فكرياً وعلمياً، لا نستبعد أن يؤدي إلى تدمير البنية الإبداعية في الإنسان وتحويله إلى مخلوق لا متوازن، إضافة لتعزيز الاستثمار فيه، وبتنمية الاعتدال وتطوير ثقافة التجانس والتكامل والأنس كي يأخذ بناءه الوجهة السليمة، بهذا يبدأ إيقاف نزيف الدماء والتحول من العدمية إلى البحث في الحلول الدائمة والشاملة، إن ما يصرف على إعداد الجيوش وتعزيز الأمن نتاج تصاعد الصراعات، بدءاً من الاقتتال العسكري وظهور الاشتباكات المسلحة بين الدول، وإن كانت بدرجات متفاوتة من الشدة، بسبب تمرير العناصر والأدوات الإرهابية، ودعم المنظمات المخالفة للقوانين والدساتير، وظهور كل أشكال العصابات والمافيات المسلحة، وما يُنفق من أجل القضاء عليها أو إنهائها مكلفٌ جداً، وكأن العالم بأسره يحيا حرباً عالمية مجزأة، وينتظر توحيد هذه الحروب حتى تكون حرباً عالمية تؤدي إلى تدمير الخليقة الحية بكل ما فيها من بشر وحيوان وشجر وحجر.
الاستثمار في الواقع يعني السير على الطريق المؤدية إلى الأمان والسلام ووأد الخصام، والحقائق تشير إلى أن الموارد البشرية مبشرة والمادية متوفرة، والدفع بهما للالتقاء يعني أن عملية الاستثمار بدأت تؤتي أكلها، فبدلاً من أن نسخرها في بناء العسكرة والحروب نصنع لها دروباً للإعمار والبناء والإنتاج، فكم من الآثار السلبية المؤلمة التي خلفتها وتخلفها هذه الحروب، حشود من الأيتام والثكالى والمصابين، ناهيكم عمن فقد حياته نتيجتها، وما أتحدث عنه ليس سوى صدى لوقائع مؤلمة تحدث في قارات العالم قاطبة، المعاناة الروسية الأوكرانية، الحرب الإفريقية، ما يجري في السودان، الاستعدادات الجارية في جنوب شرق آسيا، وأهمها ما يجري في إقليم الشرق الأوسط ومركزه فلسطين وبالذات غزة، هذا الذي يلبس الحزن الذي اعتاد عليه دائماً، بحكم حجم الجرائم المستمرة التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، حيث أبشع عمليات الإبادة للبشر والشجر والحيوان والحجر، الأمر الذي يجعل الحياة في غزة مثلاً ليست شبه، بل مستحيلة، كل هذا نتاج الفشل في ترويض التطرف وأهم مسبب له (الوجود الإسرائيلي) الذي دمج الدين اليهودي المتشدد بالفكر السياسي الصهيوني المُنتج منه، فأنجب دولة متطرفة أطلق عليها مسمى دينياً "إسرائيل" كل الأطراف في الشرق الأوسط متقاربة الفكر والمشهد تتحدث بأنه لم تنجح حتى اللحظة في بناء الإنسان لاستيعاب الحداثة؛ بل على العكس فما نراه ماهو إلا تراجعات يجعلها غير قابلة للنجاح بالشكل المنشود، وهذا بحد ذاته الذي أشغلهم عن المضي في مشاريع الحداثة والتحديث والتطوير، التي تبدأ من الإنسان، فخطابات قوى التطرف كانت ومازالت هي الأقوى، والدليل أن البناء العقائدي في البنية الدينية، حتى وإن كان بسيطاً، يعني أنه نواة قابلة للحياة برعاية بسيطة، وهذا أيضاً ما ينطبق على الأيديولوجيات التي تعتمد التشدد، وأخطر ما في الأمر اندماج هذه الأيديولوجيات بالدين، فهذا يخرب ذاك وذاك يخرب هذا، والنتيجة إيقاف التطور والذهاب إلى التخلف، ومعه يظهر القلق الحقيقي الذي يتعدى المأساة، فهل ندرك عواقب ما سيحصل من إهمال لبناء الإنسان؛ هذا الذي يؤدي بين الحين والآخر لظهور الألم والأنين والكوارث والتراجع إلى الصفر، فكم يضيع من الزمن وتتسع الهوة بين ما نحن عليه وبين الحداثة.
إن حياة الإنسان هي الأقدس، وهذا ما أكدت عليه الرسائل المقدسة والتعاليم الدينية السمحة والمنظومة الأخلاقية في الحياة ، والتي أكدت جميعها على أن هذه الحياة جديرة بالحماية والاهتمام والاحترام، فليس هناك شيء اسمه حروب مقدسة، لأن الإنسان وحده المقدس، يجب ألا نمنح للتطرف فرصة جديدة أو أوكسيراً يعيد له الحياة، فما نراه اليوم، قد انتهى، ما هو إلا نار تحت رماد صامت ومتناثر، ينتظر نفخ الأزمات فيه كي يتحول إلى إثارة مربكة تعيد للهلع والألم حضوره، إن مواطن الشرق الأوسط ومعه مواطنو العالم حائرون حيال مستقبلهم ومستقبل بلادهم، فما معنى الاستثمار في المستقبل إن لم نستثمر في الواقع الذي يجب التأسيس عليه؛ بشكل واضح وصريح، علمي وعملي، ثقافي تربوي، كونه مأزوماً ومُربكاً، أليس البدء بحل مثل هذه العقد يؤدي إلى رؤية واضحة ومسارات سليمة.

  د. نبيل طعمة

​​​

د. نبيل طعنة