الرشيدية" التونسية، ثلاثة أرباع قرن في خدمة الفن الراقي الأصيل
تحليل وآراء
السبت، ٢٢ مايو ٢٠١٠
"الرشيدية"، أبرز المدارس الفنية وأعرقها في تاريخ الثقافة التونسية، هذبت الذوق العام، وأرست تقاليد موسيقية، وراكمت رصيداً من التراث الغنائي، وعملت ومازالت تعمل على الحفاظ على هذا المخزون... مسيرة موفقة على مدى 75 سنة، حققت إشعاع الموسيقي الأندلسية، "المالوف"، الذي انطلق على أيدي جماعة قلة من رجال الفكر والثقافة التونسيين في إحدى مباني أزقة مدينة تونس، فتألق في جميع المدن والقرى وخرق الحدود وجلب استحسان السامع العربي. وتشد "الرشيدية" إلى اليوم آذان المهتمين بالموسيقى العربية مشرقاً ومغرباً...
ويقال "الرشيدية" اختصاراً للمعهد الرشيدي للموسيقى التونسية أو المدرسة الرشيدية التي تأسست في 3 نوفمبر 1934 تخليداً لذكرى محمد- رشيد باي- ثالث بايات الدولة الحسينية الذي تولى الحكم سنة 1756 وكان قد اعتنى بالموسيقى والأدب وكان شاعراً وملحناً. وقد أسندت رئاسة الرشيدية آنذاك إلى المرحوم محمد صفر.
الجذور التاريخية للرشيدية
يقول الكاتب الصحفي محمد السقانجي في كتاب "الرشيدية مدرسة الموسيقى والغناء العربي في تونس" إنه لولا وجود "الرشيدية " إلى جانب مؤسسات ثقافية أخرى كـ"الخلدونية" و"الصادقية"، لما كانت لتونس نهضة ثقافية وتطور فكري وإبداع موسيقي.
فقد ظهرت "الرشيدية" في أحلك الظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها تونس في فترة الثلاثينات، واقترن تاريخ تأسيسها بتاريخ تصاعد العمل النضالي على مختلف الجبهات والأصعدة الفكرية والعلمية.
وبرزت "الرشيدية" نتيجة عدة عوامل سياسية وثقافية من بينها ولع "البارون دير لانجي" بالموسيقى العربية وجمعه لمشايخ الفن بقصره بسيدي أبي سعيد ليتعلم عليهم هذا الفن الأصيل مثل الشيخ أحمد الوافي المتوفي سنة 1921 ومحمد غانم عازف الرباب المتوفى سنة 1942 وخميس الترنان المغني والملحن المتوفى سنة 1964 إضافة إلى جلبه للشيخ علي الدرويش من الشام ليقوم بتدريس الموسيقى العربية (بمكتبة العطارين) ويعينه على تأليف الجزء الخامس المتعلق بالمقامات والمطبوع من كتابه "الموسيقى العربية".
وارتبط ظهور الرشيدية أيضاً، بدعوة وفد موسيقي تونسي من القاهرة سنة 1932 بعد المشاركة في مؤتمر الموسيقي العربية واطلاعه على سير أعمال معهد الموسيقى الشرقية برئاسة الأستاذ مصطفى رضا بك والعمل على تنفيذ أهم توصيات هذا المؤتمر الداعية إلى جمع التراث الموسيقي العربي وتلقينه للجيل الصاعد.
وانتشر بالتوازي مع ذلك الوعي في صفوف ثلة من الشباب التونسي بالخطر المحدق الذي يتهدد الشخصية التونسية وأصالتها العربية الإسلامية لا سيما بعد تنظيم مؤتمر" الأفخار ستي" بضاحية قرطاج بتونس في ماي 1930 تحت رعاية المستعمر الفرنسي والذي شكل تحدياً للمشاعر الإسلامية لدى التونسيين خاصة، حيث تم خلاله توزيع مناشير بالعربية تدعو التونسيين إلى اعتناق المسيحية وجرى استعراض آلاف الأطفال الذين يرتدون أزياء بها صلبان بما يذكر بالحملة الصليبية الثامنة التي قادها لويس التاسع لاحتلال تونس عام 1270م.
كما يعود ظهور الرشيدية إلى تشكل الوعي بغياب الأغنية التونسية "النظيفة" من السوق مقابل انتشار الأغاني السخيفة والسطحية في سوق الفن واندماج بعض المرتزقة من الموسيقيين وسوقة اليهود في الوسط الفني مما جعل من الإنتاج الغنائي هزيلاً وسخيفاً وقبيحاً إضافة إلى ذيوع العنصر الغنائي المصري مع ظهور الأسطوانات الشرقية وانتشارها في البيوت والمقاهي وتأثر المطربين بها.
الرشيدية وإشراق الأغنية التونسية
ويوجد في رصيد الرشيدية نحو 17 قصيدة و20 أغنية عتيقة (فوندوات) ونحو 81 أغنية حديثة. وظهرت جل أغاني الرشيدية سنة 1936 عندما نظمت المدرسة مسابقة في التلحين بين شيوخ الفن، وقد نظم كلمات هذه الأغنية على الدوعاجي ويقول مطلعها (يا لايمي يزيني- من انصاب عينك عيني).وتبارى في تلحين هذه الأغنية جل الملحنين وفاز من بينهم لحن خميس ترنان.
وقد انطلقت هذه المؤسسة في حركتها الفنية بمجموعة موسيقية تتكون من 17 عازفاً من أبرز العناصر المعروفة في العزف الجيد مثل (خميس ترنان، محمد الجموسي، محمد التريكي، محمد بن كاملة ومحمد الأصرم..) ومجموعة ضمت 6 أصوات رجالية منها بلحسن بن الشاذلي والبشير الرصايصي وشاذلي دوريرة. وصوت نسائي وحيد هي المطربة شافية رشدي واسمها الأصلي زكية المراكشي.
وعهد الشيخ خميس ترنان بتلقين الأغاني والموشحات و"المالوف" لعناصر المجموعة الصوتية. وفي فترة الأربعينات تم إلحاق بعض العناصر الشابة وهم عناصر الفوج الأول المتخرج من الرشيدية. وبدأت منذ تلك الفترة الأجيال الموسيقية تتعايش مع بعضها بعضاً.
وكثر في الخمسينات عدد خريجي الرشيدية الذين يتقنون العزف بالترقيم الموسيقي. وأصبح في هذه المرحلة عدد العناصر الشابة أكثر من الشيوخ الذين بدؤوا يبتعدون عن الساحة لأسباب الوفاة والشيخوخة ولم يغادر من الشيوخ المؤسسين إلا الفنان خميس ترنان الذي بقي العمود الفقري للرشيدية إلى أن أقعده المرض في فاتح الستينات.
وقد تحدث الكاتب محمد السقانجي الذي يعود تاريخ إصدار أثره إلى عام 1986 (وهو نسخة نادرة) عن انتظارات الجمهور التونسي في تلك الفترة والذي بقي متشوقاً بعد تأسيس الرشيدية إلى سماع ما ستنجزه هذه الجمعية وهل ستحمل معها العصا السحرية التي تغير بها الوجه الرديء للأغنية والموسيقى في تونس وهل ستحسن وضعية الأغنية لحناً وكلمات؟
وأقيمت أول حفلات الرشيدية في موسم 1935. وقد أشادت الصحف بهذا الحفل حيث اعتبر نقطة مشرفة لهذه المؤسسة. وذاع صيت فرقة الرشيدية عن طريق البث الإذاعي الأسبوعي المباشر لحفلات الرشيدية والتحق جل عناصر الرشيدية إثر الاستقلال بفرقة الإذاعة الوطنية. وفي سنة1958 جرى تسجيل نوبات "المالوف" بالإضافة إلى الموشحات الأندلسية والأغاني العتيقة والفوندوات وتم تسجيل الرصيد الموسيقي على أشرطة إذاعية.
وفي سنة 1938 تحولت الرشيدية إلى معهد لتدريس الموسيقى جلب له الأستاذ علي الدرويش من حلب والأستاذ بونورة الإيطالي وأسند هذا التعليم إلى أحد خريجي المعهد الفنان التونسي صالح المهدي.
كما عمل هذا المعهد عام 1941 على تدوين التراث الفني بـ"النوطة" من أفواه جمع من المشايخ مثل علي بانواس والصادق الفرجاني وغيرهما وقام بالكتابة الأستاذان محمد التريكي والحبيب العامري.
وقد ساهم المعهد الرشيدي في بعث النهضة الفنية الحالية بتونس بتكوينه الإطارات التي اعتمدت عليها لتأسيس الفرقة الإذاعة للموسيقى والمعهد الوطني للموسيقى. كما خرّج أبرز المطربين والمطربات وركز الروح الموسيقية العربية بواسطة حفلات الإذاعة والأسطوانة وهو يواصل رسالته بحماسة وتطور
.
"الرشيدية" مسيرة ربع قرن وبعد..
ويقود "الرشيدية" حالياً المايسترو زياد غرسة وهو من مواليد 1975 بمدينة تونس العاصمة وقد ورث الشغف الموسيقي عن والده المرحوم الشيخ الطاهر غرسة أحد رموز الموسيقى التونسية وحفظها للتراث وتلميذ المرحوم الشيخ خميس ترنان ركيزة المعهد الرشيدي.
وبدعوة من المايسترو زياد غرسة التحق الفنان التونسي نور الدين الباجي مؤخراً بالرشيدية التي تستعد لبرنامج ضخم في الفترة القادمة تزامناً مع افتتاح المدينة الثقافية بالعاصمة التونسية.
وتحتفل الرشيدية من 12 إلى 16 حزيران بمرور 75 سنة على ظهور أول فرقة للمعهد الرشيدي على ركح المسرح البلدي بتونس 1935 /2010. ويتضمن برنامج التظاهرة أربع سهرات "المالوف" المغاربي بالمسرح البلدي التونسي تؤمنها فرق" الرشيدية بقيادة زياد غرسة" و"عمر المطيوي من المغرب" و" عبد الله مختار السباعي من ليبيا" و"فيصل بن قلفاط من الجزائر".
كما سيجري تقديم محاضرات حول مكانة التراث الموسيقي المغاربي الأندلسي في الموسيقى العربية بدار بلحسين.
وأفاد السيد الهادي الموحلي كاتب عام معهد الرشيدية بأنه سيقام معرض الرشيدية وذلك بقصر خير الدين ويحتوي على صور ومخطوطات وآلات قديمة كعود الفنان خميس ترنان. كما سيتم تدشين نادي "المالوف" في دار الأصرم الذي سيعمل بصفة قارة لتلقين العموم من الهواة أصول هذا الفن.
وأضاف أن ما يميز هذه التظاهرة أيضاً؛ التي تهدف إلى استحضار مكانة الرشيدية في الذاكرة الوطنية، هو فقرة مشاهد من تاريخ الرشيدية في المدينة التي يجسدها تلاميذ وطلبة المعهد الرشيدي للموسيقى وقد عهد السيناريو الخاص بهذه الفقرة إلى المسرحي التونسي محمد إدريس.
وتظل الرشيدية على الدوام مدرسة تلقين الفن التونسي الراقي الأصيل الذي يصعب إلى حد الآن التمكن بدقة من خصائصه الشفاهية التي تمنح صاحبها قدرة كبيرة على الأداء وحفرية مثلى في التبليغ والارتجال. كما يصعب تملك خصائص هذا الفن الكتابية التي تؤمن القدرة على القيادة والتسيير والتعليم وتدوين رصيد الموسيقى وقراءته والتطلع على الأرصدة الموسيقية الأجنبية. ولو أراد أحد يوماً أن يكون مايسترو الرشيدية فعليه بالجمع بين كلا الخاصتين وسيدرج اسمه ضمن قائمة رواد هذه المدرسة العريقة التي تمكنت من الصمود في وجه السنين.
تونس- فاطمة زرّيق