الرعب من يوم الحساب.. بقلم: د. محمد السعيد إدريس
تحليل وآراء
الجمعة، ٢٤ يوليو ٢٠٢٠
في كل مرة كان الكيان يشعر بالخطر أنه يقف وحيداً، وأنه دون الحماية الأمريكية كانت تسيطر عليه مشاعر الفزع والخوف والشعور بالعجز.
من المهم جداً الاهتمام بالجانبين النفسي والثقافي في دراسة «الظاهرة الإسرائيلية»، أي الدولة والمجتمع في الكيان الصهيوني بكافة مكوناتهما وتفاعلاتهما. انشغلنا كثيراً بالجوانب العسكرية في الصراع، وفي قليل من الأحيان كانت بعض الاهتمامات تتجه إلى دراسة الجوانب الاقتصادية أو التكنولوجية، وهي كلها جوانب تتعلق بالتفوق «الإسرائيلي»، وهو التفوق الذي يعتمد بشكل أساسي على الدعم الخارجي والأمريكي بصفة خاصة، ويجري تجييره كذباً باعتباره تفوقاً «إسرائيلياً» مقارنة بالتخلف العربي.
أما الجوانب الثقافية والاجتماعية والنفسية فلم تحظ بالاهتمام الدراسي الكافي رغم أنها جوانب متأصلة في ذات الكيان ومكوناته البشرية، وهي بالتحديد بؤر ضعفه، وربما «نهايته» التى بدأ التبشير بها من جانب بعض الواعين بحقيقة أن هذا الكيان «استثنائي» وأن استمرار وجوده هو الآخر استثنائي، وأنه لابد من نهايته بغض النظر عن متى وكيف.
تتكشف أهمية هذه الجوانب التي تؤكد مدى هشاشة هذا الكيان اجتماعياً وثقافياً ونفسياً في أوقات الأزمات والنكسات، تكشفت عقب حرب أكتوبر 1973 التي جرى تزوير نتائجها، وجرى تعمد إغفال الدور الأمريكي المحوري في هذه الحرب. فالمجتمع «الإسرائيلي» أدرك عن قرب حجم الهزيمة بعد أن وصلت جثامين القتلى إلى ذويهم، وبعد أن عاد الأسرى من السجون المصرية ورووا ما حدث. وحدث هذا أثناء الحرب «الإسرائيلية» على لبنان صيف 2006 عندما وصلت صواريخ المقاومة اللبنانية إلى مدينة حيفا (المحتلة). وحدث عندما قرر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب سحب قواته من سوريا، وعندما تردد في الرد على إسقاط إيران واحدة من أهم طائرات التجسس الأمريكية فوق مياه الخليج، وحدث عندما اجتاح فيروس «كورونا» الكيان، ووجد الكيان نفسه، ربما للمرة الأولى، وحيداً يواجه الخطر عندما انشغلت كل الدول، بما فيها الولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة بكوارثها الداخلية وعجزها عن مواجهة خطر وتداعيات انتشار الفيروس. في كل مرة كان الكيان يشعر بالخطر أنه يقف وحيداً، وأنه دون الحماية الأمريكية كانت تسيطر عليه مشاعر الفزع والخوف والشعور بالعجز.
هذه المشاعر هي أبلغ تأكيد على هشاشة قوة هذا الكيان لخصوصية تركيبته الاجتماعية والنفسية والثقافية، وأبلغ نفي لتفوقه المطلق وقدرته على القيادة الإقليمية، ولعل ذلك يتجلى في الأزمة الحادة الراهنة التي تتعلق بوجود احتمال كبير لصدور قرار من المحكمة الجنائية الدولية بشأن صلاحيتها في التحقيق في ارتكاب «إسرائيل» جرائم حرب ضد الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن أعلنت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودة في مايو/ أيار الماضي أن «ثمة أساساً لإطلاق تحقيق في الحالة الفلسطينية». وكانت قد أكدت قبل ذلك في يناير/ كانون الثاني الماضي أن «للمحكمة الجنائية الدولية حق الولاية الجغرافية الفلسطينية»، كما خلصت إلى أن هذه الولاية «تقع في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة»، وبناء عليه طلبت من الدائرة التمهيدية بالمحكمة مساعدتها في فتح التحقيق بجرائم الاحتلال «الإسرائيلى» في تلك المناطق.
بمجرد الإعلان عن ذلك، وقبل أن تقول المحكمة كلمتها النهائية بخصوص الموقف الذي أعلنته المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودة، اجتاحت مشاعر الفزع والخوف كبار القادة السياسيين والعسكريين في القطاع، لأنهم أدركوا حقيقة ومستوى الخطر الذي سوف يتهدد الكيان، على مستويين كل منهما أشد خطراً من الآخر.
الأول، يتعلق بتأكيد حق الولاية للمحكمة على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وهذا، إن حدث، فإنه ينسف كل أطماع التوسع والتهويد التي قامت وتقوم بها سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» في الضفة الغربية والقدس الشرقية، كما تنسف مبادرة الرئيس ترامب المعروفة باسم «صفقة القرن» التي تعطي «إسرائيل» الحق في السيادة على القدس الشرقية المحتلة وعلى الكتل الاستيطانية «الإسرائيلية» في الضفة الغربية.
أما المستوى الثاني فيتعلق بالتحقيق في «جرائم ضد الإنسانية» ارتكبها «إسرائيليون» بين عسكريين وسياسيين ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.
من هنا جاء الفزع «الإسرائيلي» حتى قبل أن تصدر المحكمة قرارها. ولجدية الخطر اعتبر بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة أن قرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية هو «يوم أسود للحقيقة والعدل». أما نفتالي بينيت وزير الحرب في الحكومة «الإسرائيلية» السابقة فقد هدد بأن بلاده «ستمنح جنودها قبة حديدية قضائية» في مواجهة قرار المحكمة الجنائية الدولية.
تهديد بينيت لم يأت من فراغ لكنه وليد محصلة اجتهادات الخبراء القانونيين للحكومة «الإسرائيلية» الذين أفادوا بأن قضاة المحكمة الجنائية الدولية سيتبنون موقف بنسودة وسيأمرون بفتح تحقيق ضد المسؤولين «الإسرائيليين»، وأن أحد السيناريوهات المحتملة هو إمكانية تعرض بعض المسؤولين للاعتقال من قبل دول أعضاء في المحكمة.
هذه مجرد بدايات للفزع قبل أن يأتي يوم الحساب الذي لن يطول كثيراً بعد أن تنهي المحكمة إجازتها السنوية. لكن يبقى سؤال مهم هو: لماذا كل هذا الصمت العربي إزاء هذه المعركة التي يمكن أن تعجّل بالكارثة للكيان، دون أن تكلف العرب وزر إطلاق رصاصة واحدة، وأن كل ما تتطلبه هو حشد قانوني وسياسي وإعلامي لمناصرة المحكمة ومدعيتها العامة التي تواجه أعتى أنواع التنكيل المعنوي من «الإسرائيليين» والأمريكيين؟