الصليبة أقدم أحياء اللاذقية
الأزمنة
الثلاثاء، ١٧ مايو ٢٠١١
حي الصليبة في اللاذقية - وحسب وثائق عام 1795 - يعتبر الأقدم فيها، وقد قُسمت حينذاك إلى مجموعة محلات كما ورد اسمها وعددها 17 منها الشيخ ضاهر ساحة مركز المدينة حالياً. العوينة. القلعة. الصباغين. المسطاح. الشحادين. العشر. باب هود. بستان الجرادين المحاذي للميناء وجاءت التسمية من كثرة الجرذان التي كانت تحملها السفن، أما الصليبة فقد سكنها الصليبيون قبل تحرير اللاذقية وحملت اسمها، وهي اليوم من الأحياء الراقية، فيها عدة شوارع فرعية، وتقع في الجهة الغربية من المدينة، ويصلها بالمركز الرئيس الشيخ ضاهر شارع القوتلي التجاري الممتد حتى نهاية الحي والموصول بالكورنيش الغربي، عام 1822 حدث أكبر زلزال أدى إلى غمر المدينة ولم ينجُ منه إلا القليل، وفي عام 1875 وقع الآخر بقوة فاقت الأول ويظهر أن الصليبة لم تغمر أو تدمر مما أدى إلى قدوم عائلات الأحياء المنكوبة للإقامة فيها، ومنذ ذلك الوقت تشكلت الحياة الاجتماعية التي لم تفرق بين الطوائف، ولذلك نجد فيها اليوم كافة الأديان مجتمعة في وحدة تاريخية وطنية، وبداخلها الجامع والكنيسة والأسر المتحابة، وفي عام 1982 وقف السكان مواجهين الإخوان المسلمين بحزم، ورفضوا أن يلطخ هؤلاء تاريخهم المجيد، وهم الذين قاتلوا مع الثوار ضد المستعمر الفرنسي، وكان جنوده يخشون الدخول والاقتراب من الحي، الذي يغير سكانه ليلاً على ثكنة القلعة المحاذية لهم، وفي وقت مبكر حملوا الفكر القومي وانضموا إلى صفوف حزب البعث وعرفوا القائد الخالد حافظ الأسد، وأحبوه مناضلاً، وطالباً، وفيما بعد رئيساً، وأخلصوا له، وظهرت من بينهم شخصيات تحمّلت مسؤوليات وطنية، وفي الأحداث الأخيرة ظلوا على مواقفهم ومنعوا المندسين من جعل بعض أجزاء الحي مكاناً للشغب، وشاركوا الأمن في مواجهتهم وطردهم، معبرين عن ولائهم وحبهم وتآخيهم وتلاحمهم الوطني ورفعوا علم سورية فوق بيوتهم.
• آثار الصليبة
حافظ أهل الصليبة على اللهجة الأم التي تناقلتها الذاكرة الشعبية من الأوغاريتية، وإذا عدنا للهاء والنون نجدها أوغاريتية الأصل (عين فهني) وتعني انظر إلي، (إجري) أي قدمي، وثمة مفردات كثيرة تخص البحر وغيرها.
يقول الباحث حنا اسكاف المهتم بتاريخ اللاذقية القديم، كما تشير وثائق 1795 أن بعض الأعمال الزراعية كان يقوم بها القدماء مثل زراعة الخس والخيار والكرنب، وعائلات أخرى كانت تربي الدواب والجمال، وبعض الأعمال الحرفية الصغيرة، وكانت الساحة عبر التاريخ للفرح في العيدين الأضحى والفطر وهي عادة مستمرة حتى الآن، ومن أهم آثار الحي قوس النصر المعروف وهو من القرن الثاني للميلاد، بناه الإمبراطور الروماني (سيبتموس ستيروس) تكريماً للاذقية التي وقفت إلى جانبه في صراعه مع الأباطرة الرومان، وهناك أيضاً أعمدة باخوس وهي جزءٌ من معبد قديم ينسب إلى باخوس إله الكرمة عند الرومان، الذي احتل مكانة بين الآلهة عند الرومان واليونانيين، وفيها أيضاً جامع الصليبة ويقع إلى الجنوب من قوس النصر، ووجدت فيه وثيقة رسمية تنص على تعيين خطيب ومدرس للجامع يعود تاريخها لشهر كانون الثاني 1749 م، وبُني الجامع بطريقة هندسية جمعت بين الفراغ السماوي المربع الشكل، وغطت باقي المساحة بلاطة إسمنتية حملت على قوائم لها شكل الأقواس وتستند على أعمدة، وجامع القبة بطرازه المعماري المميز.
يتشكل الحي القديم من أزقة وبيوت حجرية متقاربة ببعضها تشبه أحياء مدينة دمشق القديمة، ويقال إنها كانت تغلق ليلاً، وفي الخلف ما يسمونه اليوم سوق التجار الذي تتواجد فيه أقواس حجرية، وفي وسط الشارع قناة لتصريف مياه الأمطار، وصُوِّرت بداخله عدة مسلسلات سورية، وأخذت لقطات للفيلم السينمائي (المتبقي) عن قصة الراحل غسان كنفاني، وحسب تقديرات المخرج الإيراني (سيف الله داد) أن في مدينة حيفا الفلسطينية سوقاً شبيهة به تماماً، وحين أخبر التجار في السوق أن الفيلم عن فلسطين قدّموا المساعدات المطلوبة، ما جعله يثني على الروح الوطنية التي ظهرت له من خلالهم، وصرح بذلك لإحدى الفضائيات، كما عبّر عنه في اللقاءات الصحفية التي أجريت معه، وحصل الفيلم على عدة جوائز دولية، وداخل الصليبة آثار قديمة منها ما حافظت عليه مديرية الآثار، ومنها ما أزيل بسبب توسع العمران وشق الشوارع، والملاحظ أن الحي بكل مساحته غني بالآثار المطمورة في باطن الأرض، وظهرت توابيت حجرية منقوش عليها رسومات وهي محفوظة في حديقة متحف اللاذقية.
يعتبر حي الشحادين الكتف الرئيس للصليبة، وقد سمّي فيما بعد الأشرفية، وينتمي المهندس عصام وكيل مدير مكتب المتابعة في محافظة اللاذقية له، وكانت تعليقات الأصدقاء إنه انحدر من بين المتسولين، لكنه وضّح الأمر تاريخياً حيث جاءت التسمية عكس ما فُهم منها وهي ترجع لكثرة المتسولين الذين كانوا يحضرون ويحصلون على ما يريدون من الصليبة والأشرفية، قدمنا اعتذارنا للرجل الذي وضح أن المستوى المعيشي الذي كان سائداً وقتذاك يعود لشبه المجتمع الزراعي والعلاقات كانت قائمة على هذا المفهوم، والرأي الأول فيه "إن منحتك الأرض من خيرها فأعطِ غيرك، كن كريماً ففي ذلك الشهامة، قدم ما عندك والله المدبر"، ويشير أنها أفكار بسيطة لكن مضمونها شمولي، ويوحي بنوعية المثل العليا التي كان الأجداد يحملونها كطريقة للحياة، وما يمكن أن نذكره هنا أنهم كانوا يعتمدون على صيد السمك، وهم يتقنون البحر ويعرفونه جيداً، وفي ذلك الزمن لم يكن السمك إلا مادة غذائية متوفرة بغزارة، والصنارة العادية كانت تجني عدة كيلو غرامات، ولم تكن ثمة سوق للتصريف، فكلهم يصطادون ولذلك كانوا يوزعونه لمن يرغب، ولعل عائلة أبو كف هي من الأقدم في تجارة السمك، وتحمل حتى اليوم شهرتها العربية، ومن هذه العائلة الكريمة السيد الدكتور نبيل أبو كف نائب رئيس مجلس محافظة اللاذقية الذي عُرف بأخلاقه العالية، وحين كان باب المحافظ ما قبل السابق مغلقاً مدة سنتين ونصف تحت شعار "من أحتاجه أطلبه ومن يحتاجني فليراجع الدكتور نبيل"، وهذا ما جرى فعلاً، وكان بكامل التهذيب والابتسامة وبكل حضارة يرحب بالناس ويحل مشاكلهم، وهو يقدر تماماً أية سلبية خلفها شعار المحافظ على المحافظة بكاملها، ومن عائلات الصليبة الحصري. التيزيني. شريتح. جانودي. فرحات. طابوشة. شومان. ساعي. جود. فتاحي. شغري. طويل. حور. عجوز. بطيخة. مكيس. صنين. مصري. أبو ركب. والمطرجي، ويشغل المهندس صديق مطرجي حالياً رئيس مجلس مدينة اللاذقية وهو يتميز بنشاطه المهني، وأأسف إن لم تستحضرني الذاكرة الآن بعائلات أخرى، وبطبيعة الحال لست مختاراً للحي، وما أسعدني في حياتي أنني عشت فيه قرابة سبع سنوات حين افتتحنا مكتباً لجريدة البعث في شارع بورسعيد والقائم حتى الآن، وخلال هذه المدة كونت معلوماتي.
• العادات
هم أناس طيبون جداً، يعيشون حياتهم دون تعقيد، قديماً كانوا يمنعون فتح المذياع إذا ما علموا أن أحداً من سكان اللاذقية مريضٌ، وفي شهر رمضان المبارك يقومون بتقديم الطعام على الفقراء، وهذا واجب كل بيت، ويعشقون (السيبانة) وهي مفردة أوغاريتية ومعناها النزهة، ومأخوذة من الحرية التي يمارسها الإنسان وهو في أحضان الطبيعة، ونسبة كبيرة منهم نساء ورجال يحبون النرجيلة، ويتم الاستقبال النهاري، وتجتمع النسوة دورياً عند إحداهن يتبادلن الحديث واحتساء القهوة، والإفطار الصباحي، وفي العصرية التبولة، وتتم في هذه الجلسة طلبات الخطبة للشبان والشابات، أما الرجال فيفضلون المقاهي، ويوم الجمعة للصلاة والراحة، ومن العادات أيضاً – التي انقرضت تماماً- الذهاب إلى حمام السوق، وقد تم تخصيص أحد أيام الأسبوع للنساء، وكذلك لحضور السينما بعد افتتاح أول صالة للعرض، ويقول المخرج محمد إسماعيل آغا إن والدته قد حصلت على الشهادة الابتدائية عام 1940 وكانت حينذاك شهادة مهمة جداً وتؤهل حاملها للتعليم في المدارس، وهو ما يوحي بأنهم كانوا يؤمنون بالمساواة بين المرأة والرجل وحقها في التعليم، ويستقبلون الضيف بحفاوة، وبيوتهم مفتوحة، ولديهم روح النكتة خاصة بين النساء، ومن بينهم مثقفون ومثقفات، وخرّجت الصليبة الشاعرة المرحومة هند هارون، والشاعرة المرحومة فاطمة حداد، وولدها العالم الإلكتروني هشام ساعي، وأستاذ الأجيال الموسيقي محمود عجان، وزياد عجان، ومنها ظهر أول مسرح في اللاذقية من خلال أسرة السيد، وتابعه الأولاد ومن بينهم المرحوم عدنان السيد، ومن الحي أيضاً المخرج محمد إسماعيل آغا، ومجموعة من الفنانين التشكيليين والأدباء والقضاة والمحامين والصيادلة والأطباء والمهندسين، ونسبة التعليم مرتفعة جداً في الجنسين، وثمة اقتصاديون ومتفوقون وفنانون.
• للإنصاف
ما ورد من خصال كريمة لأبناء الصليبة هي في الواقع ما كان يتحلّى به سكان اللاذقية بأحيائها المتقاربة، وكانت قرية صغيرة تتشارك في الحزن والفرح، وعاداتها متبادلة، وقد ورثوها عن الأجداد القدماء، وما يمتازون به أنهم لا يساومون على تاريخهم المجيد ويحافظون عليه.
أحببت الصليبة لأن طبيعة عملي جعلتني أعيش فيها فعرفت سكانها عن قرب، وهم بادلوني الشعور، ووجدت إنه من واجبي الإعلامي كفرد عشقت بيئتهم وكشفت ما في نفوسهم أن أقدمهم كما عرفتهم تماماً، وما حصل ليس منهم أبداً إنما بسبب تموضع الحي جغرافياً حيث سهولة دخول وخروج المخربين منه وإليه، وهم رفضوا ذلك، ووقفوا بكامل الوضوح معلنين التفافهم حول الوطن وقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، كما فعلوا في الماضي، الصليبة هي للحياة والحضارة وسورية والتقدم، ومفتوحة للجميع دون أي تفريق، تلك حقيقة ينبغي أن يعرفها كل الناس.
زهير جبور