الواقعية السياسية

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٦ مارس ٢٠٢٤

الفشل في الحوار أفضل بكثير من الفشل في الحرب، لذلك نجحت سورية، إلى حد كبير، في حربها على الإرهاب عندما فشل الحوار مع داعميه، من هنا أنطلق للبحث في عنواننا الذي مثل التجسيد الفعلي لعجز أدوات الحرب المتراكمة والمنتشرة عن مواجهة الفاعلين غير الدوليين في أي منطقة من العالم، تحت مظلة كبار الدوليين الذين يبحثون دائماً عن الخلاص من الحروب من خلال طاولات الحوار، فكيف سيتم ذلك في إقليم الشرق الأوسط الممتلئ بالحروب المفتعلة من قبلهم، وأهمها مخرجات الحرب الفلسطينية الإسرائيلية المنعكسة على كامل الإقليم ومن يدور في فلك كل منها، كونهم الفاعل الدائم في هذه الحروب، وما هي الإضافات التي ستظهرها، هل ستترجم هذا العجز إلى وقائع سياسية تنجز السلام المنشود للفريقين، كما لجميع الفرقاء، أم أنها ستنتج هدناً طويلة أو قصيرة سرعان ما تعود إلى أتون الحرب؟.

وبما أن الحروب لا تعكس جوهر الصراع الروحي التاريخي والأيديولوجي الحديث الذي نشأت منه ومعه، كانت انطلاقة المقاومة التي تفرعت عنها مقاومات تحمل في مجملها أهدافاً عسكرية واقعية في حدوثها الفكري والعملي، إلا أن الآفاق السياسية التي وضعت لحركتها لم تدرك واقعيتها وما كانت تعنيه هذه الواقعية السياسية قبل بدء عملياتها، وقد ظهر عكس ما باتت تعنيه أثناء مجرياتها، والتي ستكون مختلفة جداً بعدها، لأن الواقعية السياسية فتحت آفاقاً واسعة في العلاقات الدولية تجاوزت بها الأيديولوجيات القديمة والحديثة  نتيجة تبنيها السياسات المرنة والموضوعية التي تضمن حماية الأمن القومي للدول ومصالحها، الخاصة أولاً والعامة ثانياً، المرتبطة بمصالح الدول في الأمن والاستقرار والتنمية، فهي تستند إلى الرؤى العقلانية التي تضمن المصالح المتبادلة على الصعد كافة، بعيداً عن الدوغمائية المأخوذة من كلمة (دوغما) في اليونانية، δόγμα"" وتعني ما يعتقده المرء حقيقة، وما يتعلق بالاعتقادات السياسية أو غيرها.

يقول المنظر الأمريكي ديفيد بولوك، وهو سفير ومستشار لدى الإدارة الامريكية ومن أهم داعمي مشروع الشرق الأوسط الكبير : "إن الرئيس بشار الأسد هو حقيقة واقعية" وذلك أثناء تعليقه على المسلك الواقعي والبحث في الغرب عن الخلاف الناشئ على حجم الفوائد في قبوله في حالتنا السورية التي يشكل فيها الرئيس الأسد رمزية لا يمكن التنازل عنها، وضرورة وجود اتجاه بطيء لإعادة الدبلوماسية والتعاون مع الحكومة في دمشق، ومعه برزت أهمية الاتجاه الواقعي في السياسات الخارجية للعديد من دول منطقة الشرق الأوسط في إعادة العلاقات مع دمشق، فبعد أكثر من أحد عشر عاماً من الحرب ثبت أن الأسد لم يخسر الحرب، فكان من الواقعي الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية والحوار معه بهدوء بعيداً عن المثاليات اللا واقعية بدلاً من قطع العلاقات ومحاولات تدمير البنية السياسية والعسكرية لديه، كما حدث في العراق وليبيا واليمن وتونس وبادلتها سورية التعامل من باب الواقعية بمسير هادئ يشابه تبادل الخطى.

تشير الواقعية السياسية إلى جوهر السياسة وإبداع الدبلوماسية التي تستند، في المقام الأول، إلى السلطة وإلى العوامل والاعتبارات العملية والمادية والبراغماتية التي تعتبر أن الكلمات والفكر أدوات للتنبؤ وحل المشكلات والتوجه نحو العمل، وبذلك تمثل الرد المباشر على تيارات المثالية التي كانت سائدة قبل الحرب العالمية الثانية، التي قادت العالم إلى تحول استراتيجي لجهة ترجيح لغة الاتجاه الواقعي في العلاقات الدولية، وشقت الواقعية السياسية الجديدة سبيلها كنظرية مضافة إلى المناهج في العلاقات الدولية التي مازال يسودها الاضطراب نتاج تجاوزاتها اللا واقعية.

في صراع الوجود نحن موجودون، أما الآخر، وأقصد الإسرائيلي، فهو الذي يحاول إثبات وجوده، من خلال الدعم الهائل الذي يتلقاه، والذي بدونه ما كان ليكون موجوداً، وربما نغفل عن أن صراعنا معه هو صراع حقوق مشروعة وحدود تاريخية، وإذا أخذنا الواقعية السياسية وأسقطنا أهدافها الحربية بين إسرائيل والمقاومة في غزة نستطيع أن نقرأ المشهد ونقول بأن معادلة الخروج من الحرب القائمة مكلفة جداً، رغم أنها غير متكافئة، فطرف متفوق عسكرياً بحكم سيطرته الجوية والبحرية والبرية والدعم المقدم له من القوى المصرة على وجوده، إضافة لاستخدامه أسلوب الإبادة الجماعية والأرض المحروقة بشكل همجي قل نظيره في التاريخ بهدف الحصول على ثمن كبير من مساحة صغيرة، وقد أخفق في تحقيق هذا الهدف رغم كل ما ذكرته، وطرف آخر وضع هدفاً وحيداً حققه باقتحام غلاف غزة وأخذِ الأسرى للمفاوضة عليهم، ضمن فلسفة المثالية القديمة، ثم انكفأ للدفاع عن غزة، رغم التفاوت الهائل للقوى العسكرية واللوجستية، وحقق من خلال ذلك هدفاً هاماً لم يكن على جدول أولوياته تمثل في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية، وكأن بها تولد من جديد، وهذا أيضاً لم يكن في حسبان الإسرائيلي والقوى الداعمة له.

هل نحن واقعيون في السياسة التي ننتهجها أم أننا واقعون في سياسة المصطلحات والمفاهيم القديمة والحديثة، وينسحب هذا على الواقعية في الاقتصاد والواقعية الاجتماعية والواقعية الدينية، أسئلة أدعها على خط بصركم على أمل أن تنجز أجوبة واقعية.

د. نبيل طعمة