بريطانيا..تروس قائدةً في الزمن الصعب: ليس لهذه السفينة مَن ينقذها
أخبار عربية ودولية
الأربعاء، ٧ سبتمبر ٢٠٢٢
بعد صيف ميّت سياسياً، وفي ظلّ تَوقّعات بشتاء قد يكون الأقسى في الذاكرة المعاصرة للبريطانيين، تسلّمت ليز تروس المنصب التنفيذي الأهمّ في بريطانيا رئيسة للوزراء، خلَفاً للمستقيل بوريس جونسون. وبالتأكيد، فإن وجود حكومة عاملة بعد شلل استمرّ لنحو عشرة أسابيع قد يكون شيئاً إيجابياً، لكن شخْص الرئيسة، والمجموعة اليمينيّة المتطرّفة التي تحيط نفسها بها، يبدُوان أسوأ خيار ممكن لإدارة البلاد في هذه المرحلة، حيث عاصفة الركود الاقتصادي الهائلة قاب قوسين أو أدنى
لندن | أخيراً، انتهى انتظار البريطانيين الطويل المملّ لعملية صناعة الخلافة داخل حزب «المحافظين» الحاكم، والتي استمرّت لشهرَين، بعدما صوّت ما يقرب من 150 ألفاً من أعضاء الحزب (الاثنين الماضي) لمصلحة تصعيد ليز تروس إلى منصب رئيس وزراء بريطانيا، على حساب المرشّح الآخر ريشي سوناك. وفي الواقع، فإن هيمنة «المحافظين» على أغلبية مقاعد مجلس النواب الحالي منحت الفرصة لعدد أقلّ من ثلث النقطة المئوية من مجموع الناخبين المسجَّلين في الجزيرة، للانفراد باختيار الشخصية التي سيُعهد إليها بإدارة دفّة السفينة البريطانية المنهَكة، بعدما كان بوريس جونسون قد أُجبر على تركها إثر انقلاب أعضاء حكومته عليه بداية تموز الماضي. ولم يمتلك سوناك، وزير الخزانة السابق، فرصة حقيقية للفوز بالمنصب، على الرغم من التأييد الملموس له في أوساط دوائر المال والأعمال في لندن، وتَقدُّمه في الاستطلاعات لناحية القبول الشعبي. إذ بدا جلياً أن الكتلة «الذهبية» الناخبة من «المحافظين»، كانت في مكان آخر تماماً؛ فهي لم تغفر أبداً له مشاركته الفاعلة في إطاحة جونسون من السلطة، كما أنها ليست جاهزة لتقبُّل شخصية غير بيضاء (سوناك من أصول هندية) في المنصب التنفيذي الأهمّ. ويتألّف حزب «المحافظين» اليميني، الذي هيمن على السلطة طوال أغلب فترة المئتَي عام الأخيرة، من أغلبية من الذكور الإنكليز ذوي البشرة البيضاء، وهو يعبّر عن مصالح تحالف البورجوازيين والأرستقراطيين، ما يجعل تروس الأقرب نفسياً وثقافياً إلى هذه الكتلة.
ومع ذلك، فإن كثيراً من البريطانيين تنفّسوا الصعداء، لمجرّد عودة حكومة فاعلة إلى إدارة البلاد، بعد فترة البيات الصيفي، وقبلها فترة الضعف التي عاشتها حكومة جونسون، ما بين فقدان التأييد الشعبي والتآمر ضدّ رئيسها من قِبَل منسوبي الحزب الحاكم وكبار الوزراء ورجال الدولة. وبالتالي، فإن البلاد كانت فعلياً بلا حكومة، في وقت انخرطت فيه النُخبة الحاكمة مبكراً في المنازلة الروسية - الأميركية، وشاركت بحماسة في بناء «ستار حديدي» جديد حول موسكو، في موازاة ستّ جولات من العقوبات المالية والاقتصادية التي فرضها الغرب على الأخيرة. وفي الواقع، فإن بريطانيا كانت أقلّ دول الكتلة الأوروبية استعداداً للتعامل مع الانعكاسات السلبية التي جرّتها المواجهة في أوكرانيا على الاقتصاد العالمي، وذلك بسبب سلسلة من الأزمات المحلّية، والفشل الإداري، والتراكمات الناتجة من عقود من تبنّي النيوليبرالية كمنهج اقتصادي كلّي، واكتمال تحوُّل المملكة في تقسيم العمل الدولي، بعيداً عن التصنيع والتعدين إلى مركز إقليمي لتبييض الأموال، وجنّة للمضاربات المالية.
ولذلك، فإن موجة الركود الاقتصادي الحالية تبدو أعظم تأثيراً على بريطانيا، حيث يَتوقّع بنك إنكلترا المركزي أن تكون معاناة المملكة من التضخّم الأشدّ أوروبياً، وأن تستمرّ لفترة أطول قد تستمرّ لعدة سنوات، فيما تهدّد المؤشّرات جميعها باكتمال ما يسمّيه البريطانيون «العاصفة المثالية»، بل وربّما الدخول في مرحلة من الاضطراب الاجتماعي، والحرب الطبقيّة المفتوحة. لكن بينما العالم يغلي، والبلاد على حافة هاوية سحيقة، والقلق يجتاح معظم الأسر البريطانية بشأن تدبير نفقات معيشتها، والعديد من الاستحقاقات الاستراتيجية تتراكم من دون حسم، ظلّت حكومة جونسون عاجزة عن القيام بشيء، قبل أن يأتي المتنافسان لخلافته ويكتفيا بمخاطبة مجموعة صغيرة من الناس حول حاجة الأثرياء إلى مزيد من التخفيضات الضريبية، وضرورة مواجهة الهجرة اللاشرعية عبر القنال الإنكليزي، إلى جانب استعراض خطط غير واقعة لاستعادة النموّ الاقتصادي. ومن هنا، فلا يبدو غريباً أن معظم الناخبين البريطانيين، وفقاً لأحدث استطلاعات الرأي، يطالبون بإجراء انتخابات مبكرة العام الجاري، فور تعيين رئيسة الوزراء الجديدة. لكن لا «المحافظون» ولا تروس يبدون بهذا الوارد إطلاقاً، بل إن أحد الدوافع وراء تآمرهم لإسقاط جونسون كان السعي للتخلّص من فضائحه قبل أن تُفقدهم الفرصة للتجديد لأنفسهم في الانتخابات المقبلة بعد عامين.
ومن خلال قراءة المنطلقات الفكرية والتوجّهات السياسية للفريق الجديد، يتّضح أن هذه الحكومة ستكون من أكثر الحكومات يمينيّة في آخر مئة عام، حيث من المتوقَّع لها أن تضمّ عُتاة أنصار السوق الحرّة، وأكبر مؤيّدي سياسة الانعزال وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومعاداة الأجانب، في وقت يتحرّك فيه مزاج الشعب نحو اليسار (على رغم غياب أيّ حزب يساري يمكن أن يقود أيّ حراك للتغيير)، إذ تُشير استطلاعات الرأي إلى أن نصف ناخبي «المحافظين» (وثلاثة أرباع ناخبي المعارضة) يؤيّدون تأميم شركات الطاقة، فيما أكثر من نصف المواطنين يدعمون إضراب عمّال قطارات السكك الحديدية. ولم تخْفِ تروس نياتها اليمينية خلال حملتها الانتخابية؛ إذ أعلنت بوضوح أنها ستعطي الأولوية للتخفيضات الضريبية (التي يستفيد منها الأثرياء)، أملاً بوقف انكماش الاقتصاد. لكن الواقع أن هذا الخيار سيؤدّي إلى مضاعفة الركود، في الوقت الذي تواجه فيه عشرات الآلاف من الشركات المتوسّطة والصغيرة خطر الإفلاس بسبب أعلى مستوى تضخّم في الأسعار تشهده الذاكرة المعاصرة للبريطانيين، وعجزها عن تسديد قيمة فواتير الطاقة بعد الزيادات الأخيرة.
وفي هذا الإطار، نُقل عن بول جونسون، مدير «معهد الدراسات المالية» في لندن قوله إن خطط تروس «ستحطّم المالية العامة تماماً». إذ إن الأدوات المالية قد تكون أداة لتحفيز النموّ في ظلّ ظروف عادية، لكن ما تواجهه بريطانيا أقرب إلى حالة طوارئ اجتماعية وسياسية، في ظلّ ملامح كارثة اقتصادية لن تقتصر تداعياتها على الطبقة العاملة، بل إن منسوبي «الطبقة الوسطى» سيجدون هم أيضاً صعوبات في تسديد فواتيرهم الشهرية. كذلك، ستَبرز موجة من الإفلاسات وتسريح العاملين في القطاعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة، ليس في الصناعات الثقيلة والأساسية فقط مِن مِثل الصلب والزجاج والورق والإسمنت والكيماويات، بل وأيضاً في مجالات الزراعة وتربية الدواجن وصناعة المشروبات وشركات إنتاج البطّاريات الكهربائية، إلى جانب المطاعم الصغيرة و«البارات» ومحالّ البقالة الكبرى والمتوسّطة. وإلى جانب ما تَقدّم، سيضمّ فريق تروس متطرّفين أيديولوجيين من أمثال إيان دنكان سميث، وجون ريدوود، مِمَّن يريدون تبنّي سياسات لتقليص حجم الدولة، والتخلّص من كلّ ما تبقّى من القطاع العام، وسحب الصلاحيّات من بنك إنكلترا المركزي، ودعم منهجيّة التصلّب في مواجهة كلّ من بروكسل وباريس، والاستقلاليين في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية.
بالنتيجة، هي حكومة الشخص غير المناسب في الوقت غير المناسب. لكن السؤال الأهمّ يظلّ حول ردّة الفعل الشعبية المحتملة عندما تشتدّ الأزمة؟ البريطانيون مشهورون منذ آخر ثورة للفلاحين قبل قرون، بمُسالمتهم السياسية؛ فهم يتذمرون من الأوضاع، لكنهم يتحمّلون بصبر تعليمات السلطة، وينتظرون دورهم للحصول على بعض من حقوق، وهو ما ساعد البلاد على عبور أزمات مرحلة الحرب العالمية الثانية، وفَرض على النُخبة القبول بالتأسيس لعقد اجتماعي جديد، حصل بموجبه جميع المواطنين على حدّ أدنى من العيش الكريم. وعلى الرغم من فقدانهم تدريجياً بعض هذه المكتسبات، فإن الأمور، إلى ما قبل الأزمة الأوكرانية، كانت لا تزال مقبولة. إلّا أن العاصفة التي تنتظر البلاد الآن هي من نوع آخر مختلف تماماً عن كلّ ما عاشته مِن قَبل. وفي ظلّ صعود حكومة مناوئة لمصالح الأغلبية، فقد لا يمكن توقُّع إلّا الفوضى والاضطراب.