جنوب أفريقيا تضبط التصعيد ولا توقفه: لإعلان إسرائيل «دولة أبارتهايد»
أخبار عربية ودولية
الجمعة، ١ ديسمبر ٢٠٢٣
تصاعد الدعم الشعبي الجنوب أفريقي للشعب الفلسطيني، بشكل ملموس ومتناسب، بالتوازي مع تصاعد الحرب الإسرائيلية ضدّه منذ السابع من تشرين الأول الماضي. وحتى في أثناء الهدنة الحالية، والتي تُبذل جهود مصرية وقطرية لتحويلها إلى وقف إطلاق نار دائم، تستمرّ المطالبات الصادرة عن بريتوريا بإنهاء حالة الاستعمار والإبادة والأبارتهايد، وكل الممارسات الصهيونية التي دأب عليها الكيان منذ 75 عاماً. وهي مطالباتٌ تأتي في أعقاب تراجع العلاقات الجنوب أفريقية - الإسرائيلية على المستويات كافة، ومن بينها الاقتصادي، حيث تراجعت التجارة بينهما في عام 2021 بنسبة 40%، ولم تتجاوز حاجز 500 مليون دولار (غالبيتها صادرات جنوب أفريقية إلى إسرائيل من مثل الفحم والماس والعنب).
جنوب أفريقيا الشعبية وإسرائيل: ذاكرة الأبارتهايد
بعد ضغوط ديبلوماسية مكثّفة مارستها جنوب أفريقيا لوضع حدّ لآلة الحرب الإسرائيلية، أشادت بريتوريا بوقف إطلاق النار الحالي، واعتبرته «خطوة إيجابية»، فيما تظلّ الاستجابة الشعبية الجنوب الأفريقية تجاه ما يجري في قطاع غزة، من أقوى ردود الفعل الجماهيرية على مستوى العالم، ولا سيما أنها ارتبطت باستدعاء ذاكرة النظام العنصري السابق وممارساته، وكذلك الدعم الدولي، ولا سيما الأميركي، الذي مكّن النظام المذكور من الاستمرار لأكثر من ثلاثة قرون متواصلة. وممّا بدا لافتاً في هذا الإطار، حديث معلّقين جنوب أفارقة (صحيفة «Liberation» في 28 تشرين الأول) عن أن أحداث غزة تبشّر بعهد جديد من النضال ضدّ «الأبارتهايد الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة». وعلى الأرض، احتفت قطاعات مهمّة من الشعب الجنوب أفريقي، من مثل النقابات وأتباع الكنائس والأحزاب السياسية المختلفة، أيّما احتفاء بالقضية الفلسطينية، متجاوزةً حدود إدانة انتهاكات إسرائيل وجرائمها، وفقاً لما جلّته فعاليات «اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني» (29 تشرين الثاني)، والذي مرّ وسط أجواء ملفتة، شملت حفلات موسيقية ومحاورات ومناقشات موسّعة عبر منصّات متنوّعة كالهيئات النقابية والجامعات والأحزاب والفضاءات العامّة الأخرى، ومن ضمنها تنظيم معرض سنوي حول حقوق الفلسطينيين. وفي كيب تاون خصوصاً، خرجت مسيرة احتجاجية في شوارع المدينة للمطالبة بوقف الإبادة الجارية في فلسطين، فيما نظّم «اتحاد النقابات الجنوب أفريقية» (SAFTU)، بالتعاون مع «الاتحاد الوطني لعمال مناجم جنوب أفريقيا - NUMSA» (صاحب الحشد النقابي الأبرز في تاريخ الحركة النقابية الجنوب أفريقية ككلّ منذ منتصف القرن الماضي) مسيرات مماثلة تضامناً مع فلسطين. كما أكد «اتحاد عمال المناجم» وقوفه تاريخياً في صفّ القضية الفلسطينية، وراهناً ضدّ الإبادة العنصرية الإسرائيلية. والواقع أن تلك المواقف ليست مستغرَبة، إذا ما نُظر إلى حضور ذاكرة الأبارتهايد بقوة في المشهد السياسي الجنوب أفريقي بشكل عام، رغم مرور ثلاثة عقود على عملية التحوّل الديموقراطي في البلاد.
تحضر جنوب أفريقيا راهناً في طليعة تيّار «الجنوب العالمي» المؤيّد للقضية الفلسطينية
الكنائس الجنوب أفريقية ومواجهة متجدّدة مع العنصرية
مثّلت مواقف الكنائس الأفريقية في جنوب أفريقيا، والمناهضة بقوة للحرب الإسرائيلية على غزة، تغيّراً كبيراً للغاية، بعد أن ظلّت الصهيونية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، نموذجاً يُحتذى لدى دوائر نخبوية وكنسية أفريقية في شتى أرجاء القارّة، ومن بينها جنوب أفريقيا، حتى ستينيات القرن الماضي على الأقلّ، ما يؤشّر إلى حجم ترسّخ صورة إسرائيل كقوة عدوان أو أبارتهايد، أو كما توصف في مواضع متعدّدة بأنها آخر معاقل الاستعمار الحديث في العالم. وعلى سبيل المثال، أقرّ جيري بيلاي، الأمين العام لـ«مجلس الكنائس العالمي»، في كلمة في جامعة جنوب أفريقيا (27 الجاري)، بخطورة الأزمة في فلسطين على مجمل الوضع في العالم، كونها أزمة مستمرّة منذ «احتلال فلسطين في عام 1967»، داعياً إلى «صوت مسيحي موحّد» لمواجهتها. وإذ يمكن فهم مواقف الكنائس الأفريقية في ضوء الخبرة التاريخية في مواجهة التمييز والعنصرية، فإن رئيس مؤتمر الأساقفة الكاثوليك، سيثيمبيلي سيبوكا، وجّه خطاباً شديد اللهجة إلى السفير الإسرائيلي المرحَّل من جنوب أفريقيا، إلياف بيلوتسيركوفسكي، عبّر له فيه عن مخاوف المؤتمر من الحرب في غزة (بعد بيان مهمّ، منتصف تشرين الأول الماضي، دعا فيه الأساقفة إلى وقف تصعيد القتال، وتمكين وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، في إدانة ضمنية للعدوان الصهيوني)، وطلب منه، عشيّة مغادرته، «رفع مخاوفنا الجادّة إزاء الحرب في غزة والعنف والموت في أجزاء أخرى من فلسطين، إلى سلطات (بلادكم)»، متسائلاً أيضاً عن عدم تقدير إسرائيل للقوانين الدولية المتعلّقة بالحرب، في موازاة دفاعه عن مواقف بريتوريا بشكل واضح.
جنوب أفريقيا وإسرائيل: العلاقات على الحافة؟
نجحت جنوب أفريقيا في فرض قواعد لعبة جديدة في علاقاتها مع إسرائيل، على الأقلّ لجهة المبادرة إلى اتّخاذ خطوة تصعيدية تلوَ أخرى منذ السابع من أكتوبر. ومع ارتفاع منسوب القلق الإسرائيلي إزاء مزيد من تلك الخطوات، أعلنت بريتوريا (29 تشرين الثاني)، على لسان الناطق باسم الحكومة، فنسنت ماغوينيا، أنها لا تخطّط لقطع كامل للعلاقات مع الحكومة الإسرائيلية. وأوضح ماغوينيا أن البرلمان لا يقرّر توجّهات السياسة الخارجية للبلاد، وأن «لدينا فصلاً واضحاً جداً بين السلطات داخل حكمنا الدستوري»، ما يعني أن تقديم شكوى ضدّ إسرائيل أمام «المحكمة الجنائية الدولية»، وإعلانها «دولة أبارتهايد»، لن تتبعهما «خطوات ديبلوماسية». ولربّما يمكن قراءة هذا التقييد في إطار إفهام إسرائيل إمكانية الإقدام على إجراءات لـ«خفض التصعيد»، إذا ما أقدمت هي على ترتيبات «إيجابية» لوقف العنف، خصوصاً بالنظر إلى استمرار الجهود الديبلوماسية، الإقليمية والدولية، لتمديد الهدنة. وعلى أيّ حال، وفي ما يتجاوز الوضع المرحلي، فإن علاقات جنوب أفريقيا وإسرائيل تظلّ في حدودها الدنيا بشكل عام، على الأقلّ في العقود الثلاثة الأخيرة. كما أن خطوات الأولى المقبلة، رغم الفرملة المشار إليها، ستظلّ غير متوقعة، ولا سيما أن رؤية بريتوريا للصراع تندرج ضمن مسار ديبلوماسي أوسع يسعى إلى «نظام دولي أفضل» قائم على المساواة والعدالة والإنسانية والشمول والديموقراطية، على حدّ تعبير وزيرة الخارجية الجنوب أفريقية، ناليدي باندور (أكتوبر 2023).
خلاصة
تبدو المواقف الشعبية الجنوب أفريقية من الأزمة الراهنة في غزة، متّسقة تماماً مع تجربة نضال هذا البلد طوال عقود طويلة، فيما بات مراقبون دوليون يقدّرون موقف حكومة بريتوريا، لجهة أنها امتلكت من الشجاعة ما يكفي لتصل بردّ فعلها إلى مستويات لم تبلغها دول عربية وإسلامية. لكن ما يُعرف بـ«لوبي الأعمال الصهيوني» في جنوب أفريقيا، ينشط حالياً بقوة للضغط العكسي في وجه دعوات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، رغم التراجع في مقبولية هذا اللوبي في الدوائر الشعبية، بعد حادث سبّ روب هيرسوف (أحد كبار رجال الأعمال) للناشطين المتضامنين مع فلسطين (12 تشرين الثاني). وفيما تحضر جنوب أفريقيا راهناً في طليعة تيّار «الجنوب العالمي» المؤيّد للقضية الفلسطينية، حذّرت منابر إعلامية غربية بارزة (ألبايس الإسبانية، 29 تشرين الثاني)، من أن المعايير المزدوجة الغربية في غزة تزيد من الهوّة مع ذلك التيّار، منتقدةً ضمنيّاً موقف الدول الغربية التي ارتفعت عقيرتها بالصراخ ضدّ «الغزو الروسي لأوكرانيا ومقتل المدنيين الأوكرانيين»، وأيّدت العدوان الإسرائيلي بكل السبل الممكنة حتى العسكرية واللوجيستية منها.