دع القلق وتصالح مع الحياة.. بقلم: رشاد أبو داود
تحليل وآراء
الجمعة، ٧ فبراير ٢٠٢٠
الليل جميل، آخره نهار، يقول المتفائل. النهار تعيس، آخره ليل يقول المتشائم. وثمة منطقة رمادية لكنها قصيرة. لحظات ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويولد الفجر. لحظات تزحف الشمس إلى مخدعها رويداً رويداً فترسم لوحة ربانية للغروب ثم تلقي علينا عباءة الليل السوداء يرتديها لتخفي ما نريد إخفاءه ونسكن إلى النوم.
لكن الحقيقة أن اليوم الواحد نهار وليل، أبيض وأسود، فرح وحزن، تعب وراحة. ليس ثمة فرح حزين أو عتمة مضيئة إلا في خيال الشعراء. علينا أن نتقبل الحياة كما هي، نحاول أن نوازن لنتوازن. لا مدينة فاضلة إلا عند أفلاطون، لا مثالية إلا في التماثيل التي لا تصيب ولا تخطئ ولا تتحرك، ولا هروب من القلق إلا عند ديل كارنيجي.
كارنيجي هو الذي ورطني منذ صغري بكتابه «دع القلق وابدأ الحياة» الذي يعد من بين أشهر الكتب في التاريخ وترجم إلى 56 لغة في العالم. فانضممت إلى فئة المتفائلين وأحياناً الرماديين لكن ليس السوداويين. أصبحت أرى النصف المملوء من الكأس، أفترض حسن النية قبل سوئها، أنظر إلى الإيجابيات قبل السلبيات. مع السنين تراكمت السلبيات، أصبحت كالصدأ يغطي المفتاح الذي ضاق عليه القفل. لكني، كلما أُغلقَ بابٌ أفتح آخر.
طبع الكتاب للمرة الأولى في بريطانيا العام 1948 من قبل ريتشارد كلاي، يقول كارنيجي في مقدمة كتابه «كيف نتوقف عن القلق والبدء في الحياة» أنه كتب ذلك لأنه «كان واحداً من أفضل الفتيان في نيويورك». وقال إنه كان مريضاً بالقلق حتى كره موقعه في الحياة، والذي يعزى إلى الرغبة في معرفة كيفية التوقف عن القلق. هدف الكتاب هو قيادة القراء إلى حياة أكثر إمتاعاً وإشباعاً، مما يساعدهم على أن يصبحوا أكثر وعياً، ليس فقط بأنفسهم، بل بالآخرين من حولهم. يحاول كارنيجي معالجة الفروق الدقيقة في الحياة اليومية، من أجل جعل القارئ يركّز على جوانب الحياة الأكثر أهمية.
ديل كارنيجي الذي اعتبر نفسه في شبابه أنه «الأتعس»؛ حيث كان يعاني من الفقر ويشعر بالإحباط، ويفكر في الانتحار مرات عديدة، لكنه أصبح الرجل الذي يتوافد إليه كبار رجال أعمال نيويورك وأشهر شخصيات أمريكا لطلب توجيهاته ونصائحه العملية فيما يتعلق بالتعامل مع الناس.
نشأ وعوامل الفشل تحيطه من كل جانب؛ فقد نشأ لأبوين فقيرين في قرية نائية تقع في ولاية «ميسوري»، وكان من نتائج الفقر شعوره بالنقص، كان خجولاً من فقره ومن ملابسه الرثة، من عقدته في الطفولة وهي «الخجل».
وكان مشهوراً بالتفوّق الدراسي ولم يشترك في الأنشطة الرياضية بسبب بنيانه الهزيل، ولكن وجد ضالته في فريق المناظرات ونبغ فيه بين أقرانه وكان متميزاً بالخطابة والنبرة القوية وجمال الأسلوب، وأصبح مؤلفاً بعد نزوحه إلى نيويورك ومطوراً للعلوم الخاصة بالعلاقات الإنسانية وأنشأ معهداً باسمه.
منذ وفاته عام 1955، مازال الناس حول العالم يتبادلون نصائحه في مختلف المجالات سواء لجهة فهم الآخرين أو التسامح معهم أو مراعاة حالتهم النفسية حين تتحدث معهم. لكن الواقع مختلف عن الحقيقة، وهو نفسه لم يكن يطبق دائماً نظرياته التي بها ينصح الآخرين، كان يغضب ويتوتر. قالت له زوجته ذات مرة: أريد منك أن تعيد لي الـ 76 دولاراً التي دفعتها لك حين كنت أدرس في معهدك. فأنت لا تطبق أفكارك على نفسك. فرغم كل كتبه ونظرياته التفاؤلية انتشرت إشاعات عقب وفاة كارنيجي العام 1955 أنه مات منتحراً!
ليس بالضرورة أن يكون المظهر مطابقاً للداخل. وكم من المشاهير في العالم ماتوا انتحاراً: إرنيست همنغواي كاتب «العجوز والبحر» الحائز جائزة نوبل، فان غوخ الفنان الهولندي الذي تباع لوحاته في مزادات لندن ونيويورك بملايين الدولارات، مارلين مونرو التي أذهلت العالم في الستينيات وفرجينيا وولف التي اعتدى عليها جنسياً أخوها غير الشقيق في صغرها، وكتمت الأمر لتتوالى عليها الخيبات وتنتحر غرقاً.
نعود إلى الحكمة القائلة: لا تصدق كل ما تسمع أو تقرأ. ليس كل ما يلمع ذهباً ومن الصخر يولد الألماس.
* كاتب أردني