سمّي الأقرع لأن الخضرة لا تكسو قمته..حكاية ملايين السنين الموغلة بالقدم
الأزمنة
الجمعة، ٢٢ أكتوبر ٢٠١٠
يعود تكوينه لحقبة الألب وهملايا
لم يلق الاهتمام.. وبقي دون دراسة
منذ آلاف السنين عُرف جبل الأقرع، الذي يمتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتقابله بلدة كسب- المصيف المشهور والمعروف- والذي يؤمه الزوار صيفاً وشتاءً لقضاء وقت الإجازة والاستراحة فيه، نظراً لمناخه المعتدل ونسماته النقية، وفي فصل الشتاء للاستمتاع بهطول الأمطار، أو الثلوج التي تغطي مساحات الغابات المختلفة المطلة عليه، منذ 20 مليون سنة تشكل جبل الأقرع، كما يقول الباحث الجيولوجي الدكتور فواز الأزكي، وحسب علم الأرض فلقد ترافق مع تشكل جبال هملايا والألب، وقد عاصر عدة أعمار جيولوجية، وتبرز سفوحه بوضوح خاصة باتجاه الغرب، حيث البحر الأبيض المتوسط، ويحاذي شطه على شكل جرف صخري كبير بشكل عمودي لا يمكن تسلقه، ثم ينحدر بشدة صوب الجنوب حيث المنابع العليا لنهر شرن، وتموضع بلدة كسب، وبمحاذاتها معبر الحدود إلى تركيا. لواء اسكندرون. وأول بلدة تقابله في الطرف الآخر هي (السويدية) الواقعة على شاطئ البحر.
الأسطورة
عُرف هذا الجبل منذ ملايين السنين، وقبل الميلاد 1250 سنة أطلق عليه الأوغاريتيون اسم (آفون) - حيث قبع حسب تصورهم الإله بعل في أعلى قمته، وكان يتحكم بعيشهم، فهو الذي يبعث المطر. الربيع. الرزق. العواصف، ويرسل خطاباته المتخيلة إليهم، وهم ينفذونها، وكانوا يقيمون الاحتفالات الدينية له، ويقدمون الأضحيات، وحين مرت عليهم سنوات من الجفاف ولم يهطل المطر، أوعز إليهم الإله بعل - على لسان رجال الدين - أن قدموا له الضحية (أجمل فتاة في المملكة)، فتم اختيار الشابة (آكافي) التي لم تبلغ من العمر إلا الثامنة عشرة، وضمن جو من الاحتفالات والرقص، وآكافي خائفة. مرتجفة. تم ذبحها، وحفظ دمها بوعاء كبير وصاروا يوزعونه على الأراضي، ويناشدون بعلاً أن يغفر لهم ذنوبهم، ويبعث خير المطر، لكنه لم يستجب في السنة التي ذبحت فيها آكافي، ويظهر أنه فكّر طويلاً وأجّل الأمر حتى سنوات جاءت بعدها وحملت المطر، وتعتبر آكافي اليوم الرمز لمفهوم التضحية، فهي قد غادرت الحياة في عز شبابها دون أي ذنب اقترفته.
جبل بركاني
ارتبط اسم جبل الأقرع بالشائعات، فقبل عدة سنوات قيل إنه بدأ ينفث الدخان من عمقه، وتبين أنها مجرد غيوم ظهرت في ذلك الوقت غريبة الشكل إلى حد ما وكانت تصل إلى القمة وتبددت على شكل دخان، وفي الآونة الأخيرة أشيع أنه بركاني، وسوف يتفجر، لكن الدكتور فواز الأزكي يؤكد أنه ليس ببركاني، وهو ما أظهرته دراسات أجراها، ولعله الوحيد الذي قام بهذا الفعل، لأن الجبل حتى هذه اللحظة لم يلفت انتباه الباحثين والجيولوجيين سواء في سورية أو تركيا، علماً أنه الوحيد في العالم بتضاريسه وشكله وما يحيط به، وقد تشكل عبر الزمن من خلال حت الصخور، والانجرافات، وهو يرتفع عن سطح البحر1200 م.
وصولنا
عندما توقفت العربة بسبب الطريق الصخرية، هبطنا وتابعنا السير مشياً، واجهتنا رياح قوية، وفي المكان الذي توقفنا عنده لا يستطيع الوصول إلا كل مغامر يريد أن يكتشف شيئاً ما، وكنا نصعد بحماسة وحب بدافع الاكتشاف والتعرف على موقع سوري غاية في الجمال، وحين تطلعنا صوب الشرق شعرنا أننا ننظر من طائرة، فالارتفاع هنا يشبه الخيال، وظهرت أمامنا مساحات شاسعة من خضرة وغابات وأشكال هندسية عجيبة رسمتها الطبيعة بتلقائية خالية من الفوضى، يقول الدكتور الأزكي إنها أندر المناطق الجيولوجية في العالم حسب علم الأرض، ونحن نمتلكها هنا، ولا نصرح عنها، ولا تجذب إليها الاختصاصيين، ولا السياح، وكان من الأجدر أن نجعل منها منطقة مفتوحة للفنانين التشكيليين، والنحاتين الذين سيجدون مادتهم الفنية، خاصة في مناطق تلاقي المنحدرات الجبلية مع البحر، أو بتشكيلة الصخور ذات الهندسة الغريبة، والأشكال غير المألوفة فعلاً، والمدهش في تكوين الجبل تلك الانحدارات السفحية الشديدة، والمتقدمة بجنون، وهي تشعر المشاهد أنها ستهاجمه، أو تتقدم بكل قوتها إليه، لتنتهي عند حدود الخضرة أو البحر، مشكلة خطاً أفقياً، كما في موقع السمرة، حيث استُغل لتصوير مسلسل تلفازي (ضيعة ضائعة) أو موقع جزيرة الحمام في البدروسية، وثمة ينبوع ماء يتدفق غزيراً. نقياً. قادماً من العمق دون معرفة لمصدره، أو خط جريانه، وكنا نستنشق الهواء العليل النقي الذي يحمل الأوكسجين الصافي ونسمع زقزقة الطيور وهي تحيي الطبيعة بكاملها، ونرى الزهور الخاصة التي تنمو هنا.
• عودتنا
خرجنا من بلدة كسب صعوداً، وسنعود إليها هبوطاً، لم نشعر بالتعب ولا الإرهاق، كانت المنحدرات تقودنا إلى الأمام دون إرادتنا، تجبرنا على التباطؤ بالسير، والرياح الغربية القادمة من البحر تدفعنا بقوة ونحن ننخفض رويداً، وننعطف.
تشتهر كسب بشجرة الغار وتصنيع صابونها، ودخلنا سوقها لنتعرف على غارها، ومن الطبيعي أن تكون البلدة المجاورة لجبل الأقرع مشهورة بشجر الغار الذي يغطي مساحات شاسعة فيها، وهو رمز الانتصار، يضعونه فوق رؤوس المنتصرين حين يعودون من الحرب، ها هو الأقرع يتكلل بالغار لأنه انتصر على الزمن وظل شامخاً.
الأقرع يشكل تواجده في المنطقة حركة أرضية تخرجها عن مألوفها، خاصة وأن الغابات التي تقابله تمنح الطبيعة سكوناً موسيقياً، وحفيفها يجعل اللوحة متناسقة، لكن البصر حين يلتقط جبل الأقرع والتلال المحيطة به سيجدها كلون آخر في لوحة خارقة الجمال، وسينعكس ضجيجه الصامت على عين الزائر التي ستدهشه للوهلة قمته إلى أن ينسجم مع ما يراه ويبدأ بالاكتشاف الضمني لجمالية المحيط الرائعة جداً.
ابتعدنا قليلاً عن الجبل في انحدار يؤدي إلى الطريق التي تقودنا صوب اللاذقية وعلى الجانبين كانت بساتين التفاح والخوخ والرمان الذي اكتمل نضجه الآن، والشمس التي غابت وراء الأفق.
زهير جبور