صناعة "المشموم"حرفة تونسية عريقة، تزدهر في الموسم الصيفي
الأزمنة
الأحد، ٦ يونيو ٢٠١٠
باقة مصغرة تتكون من حبات الفل أو الياسمين، يهوى بياضها الناصع ورائحتها العبقة الرجال والنساء على حد سواء، يعتبر إهداؤها من باب الملاطفة، وتحمل - كما هو مألوف- أما في اليد أو مرشوقة فوق إحدى الأذنين أو في جيب القميص، وما إن تفتح أزهارها حتى تزداد جاذبية عطرها، إنها "المشموم" الذي تشتهر به تونس ويمثل خصوصيتها في الموسم الصيفي...
لغوياً تشتق تسمية "المشموم" من فعل شم اعتباراً لمواظبة "الشام" على حركة رفع "المشموم" ومقاربته للأنف من أجل الانتعاش برائحته. وتعد صناعة "المشاميم" من أعرق الحرف التقليدية التونسية. وقد حافظت هذه الحرفة على نفس التقنيات اليدوية القديمة. وتعرض المشاميم للبيع بكيفية بالغة الترتيب في طبق مصنوع غالباً من الحلفاء عن طريق باعة متجولين في الأماكن العمومية والمقاهي والنزل والشواطئ.
حرفة يدوية متسلسلة الأطوار
وتمر عملية صنع "المشاميم" بثلاثة أطوار. تكون البداية بعملية الجني يومياً في الصباح الباكر قبل أن تفتح أزهار الفل والياسمين. ويبيع الفلاحون المحصول المجمّع بالكيلوجرام الواحد إلى "صنايعية المشموم" الذين يتولون في الأثناء قص وتسوية أعواد صغيرة من الحلفاء التي ستشكل من حولها الأزهار. ويتم طرح المحصول من حبات الفل والياسمين فوق المائدة ليتجمع من حولها هواة نظم تلك الحبات المتناثرة يدوياً في شكل دائري وشدّها بواسطة خيوط رقيقة إلى الأعواد.
ويتفنن الصناع في تحلية "المشاميم " بألوان زاهية بما يجعل منها أكثر جاذبية. فيضع البعض في قلب الباقة زهوراً إما حمراء أو صفراء أو بنفسجية ويزينها آخرون بمواد تطريز تستخدم غالباً في صناعة لباس العروس مثل "العدس" و"الدنتيل" وغيرهما وهناك من يرسم بهذه المواد عبارات تهان وأسماء العروسين كل بحسب ذوقه واجتهاداته.
ويجري تهذيب باقة المشموم بعد تكوينها بقص آخر طرفها وتصفيفها في أوعية كرتونية لتوزع على تجار الزهور الذين يوزعونها في مرحلة موالية على باعة متجولين.
ويقول الحاج يوسف المؤدب أصيل منطقة الوطن القبلي التونسي، ومحترف لهذه المهنة منذ نعومة أظفاره، إن "المشموم "غَرام قبل أن يكون حرفة يتوارثها الأب عن الجد. ولا مجال للتفريط في هذه الصنعة ما دامت هي الأصول والتقاليد".
من طبق الحلفاء إلى الرحلات الجوية
ويرتب الباعة "المشاميم" في أطباق هي غالباً من الحلفاء. وتبدأ مرحلة تسويق تلك "المشاميم" مرفقة بعقود فل وياسمين للنساء مع اقتراب موعد غروب شمس كل يوم.
والفل أغلى ثمناً من الياسمين إذ يتجاوز سعر الكيلو أحياناً 20 ديناراً تونسياً (حوالي 15 دولاراً) فيما لا يتعدى سعر كيلو الياسمين 15 ديناراً (11 دولاراً). ويمكن صناعة مئة مشموم متوسط انطلاقا من كيلوجرام واحد من الياسمين أو الفل. ويتحدّد سعر المشموم بحجم كمية الفل أو الياسمين المستخدمة في صناعته وبتميز شكله.
ويصل سعر المشموم العادي إلى دينار واحد في المناطق غير السياحية وإلى دينارين اثنين في المناطق السياحية أي أن البائع المحظوظ يمكن أن يبيع في اليوم ما قيمته 100 دينار من المشموم (ما يقارب 75 دولاراً).
ويمتاز بائعو "المشاميم" عن غيرهم من الباعة بملابسهم التقليدية التونسية التي تتلاءم وطبيعة المشموم العريقة وتسهم بما لها من جمالية خاصة في اجتذاب الحرفاء من التونسيين وكذلك السياح الذين يهوى عدد كبير منهم حمل هذه الباقة والاستمتاع برائحتها والتقاط صور تذكارية أثناء حملها.
وتتنافس عديد القرى والمدن التونسية التي اشتهرت بالمشموم والمتميزة بالمناخ الساحلي المعتدل مثل"رادس "و" قصر هلال" و"المكنين" و"الحمامات" و"الصقالبة" و"لمطة" في إعداد أجمل هذه الباقات وإتقانها في أحجام مختلفة.
وتشغّل هذه الحرفة مئات العائلات في الصيف ويقبل الكثير من الهواة في السنوات الأخيرة على صناعة وبيع "المشموم" لملء أوقات الفراغ، كما يمتهن هذه الحرفة طلاب المدارس والجامعات لتحصيل مصروف الجيب خلال عطلة الصيف التي تستمر ثلاثة أشهر. وتسهم تجارة "المشاميم" في إنعاش الدورة الاقتصادية الوطنيّة.
ولا تروج هذه البضاعة في المناطق السياحية إلا برخصة يصدرها أصحابها من البلدية مقابل 120 ديناراً في السنة (حوالي 90 دولاراً) على أن يتم تجديدها سنوياً.
ويتراوح سعر المشموم الواحد بين 500 مليم ودينار ونصف تونسي (إلى حدود حوالي دولار) أما "المشموم" من الحجم الكبير فيصل سعره إلى حدود 40 ديناراً تونسياً (أي ما يعادل 30 دولاراً).
ورغم أن عمر زهور الفل والياسمين لا يتعدى ال24 ساعة إلا أنها أدرجت ضمن قائمات الصادرات التونسية الموجهة خصوصاً إلى الأسواق الأوروبية ومن بينها فرنسا حيث يتم نقلها على جناح السرعة إلى باريس في رحلات جوية لا تتعدى مدتها ال130 دقيقة. ويتجاوز المشموم التونسي حتى فصل الصيف. وقد صارت زهرة الياسمين والفل تربّى في البيوت المكيّفة بما يتيح تسويق المشموم في بقية الفصول. وابتكر هذه الطريقة الجديدة التي تمكن من تمديد موسم الياسمين والفل بشهرين "وليد الحاكم" وهو شاب في العقد الثالث من العمر متخرّج من المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجية.
"المشموم"علامة ثقافية
ومن المعتاد لدى الأسر التونسية زراعة أشجار الفل والياسمين بحدائق منازلها في أماكن قريبة غالباً من الأسوار لتطل على الشوارع برائحتها الزكية ولونها الأبيض الممتزج بخضرة الأغصان. ويقوم سكان العمارات بزراعة هذه الأشجار في محابس كبيرة تنصب بالشرفات. ويقبل عامة الناس على شراء "المشاميم" وعقود الفل والياسمين في المقاهي وعند التنزّه مساءً في شوارع المدن التونسية.
وتحتل هاتان الزهرتان مكانة خاصة في طقوس التونسي في الأعراس والأفراح بشكل عام وتمثل إحدى أهمّ ركائز ليلة الزفاف إذ يتعين على العريس ليلة زفافه حمل "مشموم الفل" في حجم كبير وإهداء آخر إلى عروسه يكون مرصعاً بحبات العدس اللامعة وفي قلبه وردة أو قرنفلة حمراء تعبيراً عن حبه وتفاؤلاً بالسعادة. ويحمل المدعوون إلى الفرح بدورهم «المشموم» سواء كان من الياسمين أو الفل لكن في حجم أقل من "مشمومي" العروسين. وتقدم "المشاميم" إلى معازيم الأفراح تماماً كالمشروبات والحلويات.
وتتأكد مكانة "المشموم" المتميزة في المجتمع التونسي،من خلال ما تغنى به عديد الشعراء والفنانون الشعبيون بهذه الباقة ومن بينهم المرحومان خميس الحنافي (صاحب أغنية: يالي رشقت المشموم) والطاهر غرسة (في أغنية: مشموم الفل). كما استهوت "المشاميم"الرسام زبير التركي فلم يتردد في توزيعها على اللوحات التي اعتمد فيها تقنية الرسم الخطي على الورق الأبيض ومن بينها لوحتا "صيف في المدينة" و"مشهد من سيدي أبي سعيد".
كما ابتكر الفنان التشكيلي علي بالآغة "مشاميم" العنبر والفضة في فترة الخمسينات. ووفق السيد منوبي بن غربال وهو يعمل في تصنيع الفضة منذ فترة الستينات بدكانه الكائن بالمدينة العتيقة بنهج جامع الزيتونة أخَذ الصناعية عن علي بالآغة هذه الحرفة وتجارتها.
ويصنع الحلواني التونسي ضمن أصناف "الحلو العربي الأصيل" نوعاً راقياً يطلق عليه تسمية "المشموم" وهو قطع حلويات صغيرة الحجم مرصعة بالفواكه الجافة (فزدق أو بندق) في شكل مشابه تماماً للمشموم الأصلي.
واحتفاء بزهرتي الياسمين والفل تقيم قرية الصقالبة التابعة لمحافظة نابل مهرجان فنون الياسمين. وتخصص مدينة رادس بدورها لياسمين مهرجانها. وفي سنة 2007 أعدّ صانع الباقات “فرجاني العقربي” باقة عملاقة مسجلاً بذلك اسمه في موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية واستغرق إعداد الباقة يوماً كاملاً وقدّرت كلفة إنتاجها بحوالي 200 دينار (150 دولاراً) وتألفت من 500 مشموم صغير كما تطلب إنتاجها 6 كلغ من الياسمين أي ما يعادل 23040زهرة. ويوجد وسط مدينة نابل نصب "المشموم التونسي" متوسطاً لنافورة ماء. وتغزلاً بخصالها ومحاسن خلقها تشبه الصبية المحتشمة المأدبة في المجتمع التونسي بالمشموم الذي يشتهى حمله وشمه في كل المواسم.
ويشار إلى أن صناعة وتجارة "المشاميم" مهددة رغم ازدهارها في بلد الفل والياسمين بالاندثار جراء تراجع مساحات المزارع والتوسع العمراني. ولا يخفي الحرفيون قلقهم بسبب هذه الأزمة من تراجع جودة "المشموم التونسي".
(خاص بالأزمنة : تونس- فاطمة زرّيق )