عن بُعد ثالث في العمليات الفدائية: هكذا يَعي الفلسطينيون إسرائيل
أخبار عربية ودولية
الجمعة، ٨ أبريل ٢٠٢٢
حملت سلسلة العمليات الفلسطينية الأخيرة في الداخل المحتلّ، العديد من الرسائل والأبعاد، منها ما يتعلّق بتصميم الشعب الفلسطيني على مقاومة عدوه، وأخرى متّصلة بهشاشة الأمن الإسرائيلي، على رغم ما يمتلكه الكيان من قدرات عسكرية وتكنولوجية. لكن ثمّة بُعد إضافي لم يَجرِ تسليط الضوء عليه بما يكفي، متمثّل في كون العمليات نفسها دليلاً على فشل عرّابي التطبيع الجديد في التسويق لمشروعهم بوصْفه «صفقة» في صالح الفلسطينيّين، ستُتيح إرساء «سلام» على أساس «عادل»، وفق ما روّجت له الإمارات مثلاً، التي برّرت توقيعها «اتفاقيات آبراهام»، بوقف عملية «الضمّ» التي كان منويّاً تنفيذها بموجب «صفقة القرن». الإشكالية الرئيسة بالنسبة لهذا «المنطق»، هو أن إسرائيل لا تستطيع إلّا أن تكون نفسها، لا لأسباب عارضة أو مستجدّة، بل لأن ماهيّتها قائمة على كونها «دولة» عدوانية استيطانية توسُّعية إحلالية، لا يمكن أن تقبل إلّا بـ«جيران» خاضعين لها بالكامل، بل وتَعتبر امتلاك أيّ من هؤلاء قدرات تُنافسها - ولو من موقع أدنى -، عسكرياً وتكنولوجياً، للدفاع عن نفسه، تهديداً لـ«أمنها القومي»، ولا تتردّد في بذل كلّ الجهود السياسية والأمنية والعسكرية المتاحة للحؤول دون توفّر هذه القدرات بأيديهم، والأمثلة على ذلك كثيرة. باختصار، ومن أجل أن يكون الكيان مطمئنّاً على مستقبله، ينبغي أن يكون محيطه «ممسوحاً»، لا حول له ولا قوّة.
النموذج الأبرز لما تَقدّم هو فلسطين نفسها؛ إذ بالرغم من تنازل الطرف الفلسطيني الرسمي، بإمضاء واحد، عن 78% من مساحة فلسطين (اتفاق أوسلو)، مقابل حُكم ذاتي على بعض الضفة الغربية وقطاع غزة (قبل تحريره)، اللذين يشكّلان 22% من المساحة الكاملة، مع وعد بمفاوضات حاسمة بعد خمس سنوات من إقامة السلطة، حول عدد من القضايا التي بقيت عالقة من دون تسوية (القدس، اللاجئون، الحدود، والمستوطنات...)، لا يزال الاستيطان يتوسّع ويتضاعف في الضفة الغربية منذ ما يقرب من 30 عاماً على هذا التنازل (1993). وبحسب «اتفاق أوسلو»، تمّ تقسيم الضفة وقطاع غزة إلى مناطق «أ» و«ب» و«ج»: الأولى تخضع لسلطة إدارية وأمنية فلسطينية؛ والثانية لسلطة إدارية فلسطينية وأمنية إسرائيلية، والثالثة - التي تشكّل 60% من مساحة الضفة - لسلطة أمنية وإدارية إسرائيلية، وهي المناطق التي تنتشر فيها المستوطنات. إلّا أنه في مقابل ذلك، لم توافق إسرائيل على مبدأ إقامة دولة فلسطينية (لا يوجد نصّ يلزمها بها في الاتفاق) على طول الخطّ، بل إنّ ما يميّز البرنامج السياسي لرئيس الحكومة الحالي، نفتالي بينت، مثلاً، أنه يحمل راية ضمّ مناطق «ج» إلى إسرائيل، ورفض إقامة دولة فلسطينية على ما تبقّى، فيما لا حاجة إلى التذكير بسياسات سلفه، بنيامين نتنياهو، والتي لم تغادر المربّع نفسه البتّة.
لم تنتهِ القصة هنا؛ فبعد كلّ ما تَقدّم، كان المطلوب من الشعب الفلسطيني الامتناع عن الاعتراض والمقاومة، حتى تحت سقف انتزاع ما تبقّى له بموجب «اتفاق أوسلو». ولذلك، صعّدت حكومة الاحتلال سياسات الاعتقال والقتل وهدم المنازل والعقاب الجماعي (الذي يتجلّى مثلاً في التنكيل بأقارب المقاوم وجيرانه وأهل بلدته) والقصف والتدمير والحصار، ليَثبت أنّ لا أفق سياسياً حتى أمام الذين تخلّوا عن معظم فلسطين وعمدوا إلى إضفاء «الشرعية» على وجود إسرائيل. بتعبير آخر، وُضع الفلسطينيون أمام خيارَين أو - بالأصحّ - مستويَين من الاعتداء: إمّا التسليم بواقع الاحتلال والزحف الاستيطاني والحصار - والذي لا يعرف حدوداً أو نهاية -، وإمّا الردّ وتلقّي الأثمان الباهظة من جرّاء ذلك. وهي معادلة ظلّت سارية على مدى تاريخ الشعب الفلسطيني، وقد كان أحدثُ تطبيق لها ما شهدته الأشهر الثلاثة الماضية، حيث ارتقى منذ مطلع السنة الجارية 27 شهيداً فلسطينياً، معظمهم تقريباً قبل العمليات الأخيرة، ولم يشاركوا في أيّ نشاط مقاوِم، في وقت استمرّ فيه تضييق الخناق على غزة، وتوسيع المستوطنات في الضفة والقدس، وإدخال المزيد من الفلسطينيين إلى السجون.
ثمّ أتت العمليات الأخيرة كجزء من ردّ أقلّ من تناسبي على تلك الاعتداءات، لتُولّد حالة ذعر في كيان العدو، دفعت بمسؤوليه، وعلى رأسهم بينت، إلى دعوة المستوطنين إلى حمل السلاح، واستنفار الشرطة ونشرها في الأنحاء كافة، وإلحاق عدد من ألوية الجيش بها لمساعدتها. لكن تقديرات الأجهزة الأمنية لا تزال تُشير إلى أنّ شهر رمضان قد يشهد المزيد من الاحتكاكات والتوتّر الأمني، وصولاً إلى احتمال تكرار معركة «سيف القدس» (أيار 2021)، وهو ما حاول العدو تداركه بجملة «تسهيلات» شملت السماح لـ20 ألف عامل من قطاع غزة بالعمل داخل الأراضي المحتلّة عام 1945، لكن بشرط الصمت إزاء المستوى الأول من الاعتداءات. هذا هو إذاً النموذج القائم في فلسطين، والذي يُراد للفلسطينيين والعرب القبول به والتطبيع معه، في ما لا يتّسق مع أبسط شروط المصلحة، فكيف إذا قيست الأمور إلى مسألة الحقوق والعدالة، وحقيقة أن الاحتلال، أيّاً، كانت صيغته تنبغي مواجهته ومقاومته بكلّ الوسائل المتاحة.