لا يكن أحدكم إمعة ..بقلم د. عبد الرزاق المؤنس
تحليل وآراء
السبت، ٩ يونيو ٢٠١٢
هذا جزء من حديث شريف: (لا يكن أحدكم إمعةً يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت ولكن وطّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس وأن تجتنبوا إساءاتهم إن أساؤوا)، وهو قاعدة تربوية وأخلاقية، ومرجعية عظيمة رائعة في صناعة الحكمة لتخريج القرارات والتصرفات وفق هديها في شؤون السياسات المختلفة المتوزعة في كل فقرة قيادية من مصالح الوطن بمختلف توصيفاته، وكذلك في شؤون المناهج التعليمية والتربوية والوعظيات الدينية الصحيحة الصادقة لا التقليدية المتقاربة مع التصنّع والمهنية!، ويجمع كل ذلك القلوب الكبيرة التي اجتهدت وبذلت تضحيات قياسية في سبيل العلم والثقافة والفهم الحضاري الحيوي الذي تشده قضية الحياة بهمومها المنتجة التي تشغل صاحبها بما ينفع ويتأهل بفضلها إلى كفاءة استحقاق تحمل المسؤوليات التي تبنى عليها مصائر أفراد أو جماعات أو مواقع في مرافق الوطن والحياة، فإذا غابت هذه الهموم والأفكار من ضمائر أصحابها أولئك ذوي المسؤوليات فعندئذ تصبح الكرامات والاحترامات والقداسيات هياكل تستهلك أكثر مما تنتج، وتخدع أكثر من أن تنصح، وتسعد بما تستحوذ عليه وتُشبع به رعوناتها أكثر مما تتحرق له في سبيل المصالح العامة وفي سبيل الاستجابة للاعتبار الإيماني الحق ثم في بناء الاعتزاز الوطني عليه؛ فإن كل إنسان يرتع على مساحة هذه الحياة وعلى محيط وطنه لن تقوم له كرامة ولن يصح أو يصدق منه عمل إن لم ينطلق للوجهة التي يوليها في كرامة العمل والبناء والعطاء من ثوابت مرجعية مقرونة أولاً وقبل أية مرجعية بالحق الرباني مشفوعاً بالاهتداء النبوي الحكيم في منقولاته ومعقولاته وخلقياته وتراحماته وفي انبثاقات ضوابطه المنطقية؛ فعندئذ تصح وتصدق به المكونات النفسية للثقة والعزيمة في مواجهاتها لفتن الحياة ولابتلاءاتها ولتأكيد قوة مفاعيلها في الإجابة على كل استفهام وفي تنظيم كل قضية وفي توجيه أي مقترح أو مشروع نطمئن إلى فضاءات الرضى به في أي مطلب من مطالب المعايير المتواصية بين الواجبات والحقوق، ولعلي بهذا قد أحطت بالملجأ المرجعي لتلك المحاور والثوابت التي تنهض عليها الشخصية الذاتية والقانونية الوطنية في اعتبارات أصحابها لتكون لهم طاقة منيعة في اتقاء التردد وخذلان الذات واسترخاص الكرامة التي تتعاطى معها (الإمعيّة) عند مظان إحكام القرارات وضبط التصرفات وتقويم الاعوجاجات ومكافحة الغوغائيات أمام صخب التيارات المنفعلة لدى أية مشكلة أو ضوضائيات على غير هدى من الرشاد والتوجيه، ومن هنا تأسست وتأكدت أعظم الثوابت لمرجعيات الحياة وروافدها في الدساتير والقوانين وفي اختيار القياديات والكفاءات وفي إنشاء معالم الانتهاض الحضاري لها وللوطن بما جاء في قول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)..؛ فكل ذلك إنما هو الحرف والكلمة التي لا تنطق إلا بالحق المستخرج من الجهة المعصومة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها اللهم إلاّ إذا أسيئ إليها بتناول أشخاص غير قديرين ولا جديرين في فهمها أو في أخلاقيات التعامل معها، ومن ثم فإن أخطر ما جنى على الأديان وعلى الإسلام دين جميع الأديان والرسل إنما هم المتشخصون بها والمتأسلمون؛ فكثر على إثر ذلك الكلام تعويضاً عن دناءة همم العمل ثم انحدر إلى صناعة الكذب المقنع حتى دخل إلى جراءة (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)؛ فكيف إذا كان أمثال هذه الدناءة والكسل سبباً في رفض القيم الصادقة الناصحة للأمّة والوطن وللدنيا والآخرة؟
ثم استعرضت عليها وجوه ترهقها قترة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب؟! أو كان لها أيضاً حق المرور في كل طريق؟؟!
وهل هذا الاحتماء الذي تشهد له عثرات التصرفات وهزائم الهمم ينفع في مصداقية الطواف حول الحرج الشديد لمحنة الوطن اليوم ويجمع كلمته واستحقاقاته؟! إن الأحداث المهيجة التي تؤلمنا وتقلقنا لا يستطيع مواجهتها ولا مكافحتها والتصدي لها وجه واحد في قطاع الوطن العزيز ثم تبقى الوجوه الأخرى في المدرجات وفي انتساب أي موقع أو مرفق إلى برامجها وجهودها المتثاقلة في أتون مصالحها الخاصة وأهوائها؛ لأن المعقول الملحّ من هذا يقتضي إذا ضاق جانب من جوانب المجتمع ساهم الطرف الآخر المجاور أو المتناغم في صدقية العمل والبناء والتكامل والعطاء معه. للتيسير سعياً في اتساع الجوانب الأخرى، لا أن تستغل الأحداث لينتهز هذا أو ذاك مآربه ومصالحه في الداخل أو في الخارج من حيث يعلم أو لا يعلم؛ فأين العهد؟ وأين الذمة الإيمانية بين الإنسان وبين الله رب العالمين؟!: (ألا إنه لا دين لمن لا عهد له ولا إيمان لمن لا أمانة له)!، هذا اللهم إن كنا مؤمنين حقاً إيمان مصدّقات لا إيمان تسلطات أو شكليات ووعظيات وشعائريات ليس لها مفعولها الطيب المحترم في التزكية النفسية وفي إحقاق الحق وإزهاق الباطل ولو على حساب نفس صاحبه أو قرابته أو عشيرته فضلاً عن السعي إلى تأكيد ذلك في التراحم والتعاون والمحبة بل وأهم من ذلك في إعذار المخطئين أو المقصرين عن غير قصد وتعمد؛ لأن (كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون)؛ أجل فما قيمة أي مبدأ أو فكر أو دين أو قانون مكتوب في هذه الحياة إذا فقد في أهم وظائفه جناحي الفهم الموضوعي للواقع ولأهم قيمة فيه وهي الاحترام والكرامة الإنسانية ثم ظلال العطاء والإصلاح والإنتاج المحمود؟!، ولعل مما لا يُكتم من الأسف اليوم وفي منطوق الفكر والتعقل في مظنة حكمة التشريعات أن التقييم الصحيح لأية مشكلة أو قضية أو شأن لا يعتد به وحده من خلال الفعل ومن أسلوب مواجهة الخطيئة والمخطئ وطريقة التصرف مع الطرف المضاد!! وهذا بعد إحكام العقل والحكم والحكمة قد أشرق في كلام الله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم) أما في أعظم رسالة وأرحم تشريع رباني للإنسانية ولرجالها ولقيادييها فقد جاء في طريقة سداد الأسلوب ورشاده في رد الفعل النبوي على حوادث كثيرة في المعصية والأخطاء، ومنها ما حصل لصحابي عصر النبوة قد شرب الخمر جهاراً ثلاث مرات وفي كل مرة كان يقام عليه حد الشرب للمسكر لأنه جاهر بهذا، وفي المرة الثالثة بعد إقامة الحد عليه بحضور الرسول صلى الله عليه وسلم قال أحد زملائه من الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به!! (أي لإقامة الحد عليه) فنهاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن هذا ونهى أمثاله أيضاً وقال: لا تلعنوه ولا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم؛ فو الله ما أعلم إلاّ أنه يحب الله ورسوله. (وهو حديث صحيح).
د. عبد الرزاق المؤنس