معجزة الجامع الأموي

معجزة الجامع الأموي

ثقافة

السبت، ٣ مارس ٢٠١٢

وقف شامخاً علامة من علامات دمشق يناجي التاريخ ويروي حكايا أمم وشعوب، صارع قساوة الأيام والطغاة والغزاة ولم يزل شامخاً في أحضان دمشق، على جدرانه تكسرت أحلام المحتلين، ونيران العابثين، وفي رحابه قصص تروى وحكايا لذاكرة الديانات والأنبياء والحضارة التي ابتدأت من دمشق ولم تنته، كان معبدا وثنيا تداولته أيدي اليونان والرومان وأقوام وأقوام، ثم صار للمسيح وانتهى إلى محمد...
هو جامع دمشق (الكبير) أو الجامع الأموي أو المسجد الأموي أو جامع بني أمية الكبير، هو أكمل وأقدم آبدة إسلامية مازالت محافظة على أصولها منذ عصر مُنْشِئها الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي والذي جاء آية من آيات الفن البديع والعمارة الإسلامية، وبالغ في تشييده وتزيينه؛ ليكون مظهراً لقوة الدولة ومبلغ حضارتها، وأنفق عليه أموالاً طائلة واستغرق بناؤه عهد الوليد كله فكان الجامع الأموي معجزة في دمشق حققها الخليفة الوليد.
تتالت على الجامع الزلازل والحرائق والإهمال وفي زمن ما صيّر خاناً وامتلأ صحنه باللاجئين والمقيمين، واتخذه في زمن آخر الأمراء حواصل ومستودعات، وعبث به التتر والمغول وتيمورلنك.. ومع ذلك بقي الأموي معجزة دمشق شاهداً إلى الآن على تاريخ موغل في القدم يروي ذاكرة مدينتنا دمشق الشام.
نفقات بنائه
يبلغ طول الجامع حوالي 157 متراً وعرضه 97 متراً وتقدر مساحته بـ15.229 متراً مربعاً، ويحتل صحن الجامع مساحة 6000 متر مربع من جهة شمال الحرم، وقد بدأ البناء فيه سنة 705م واستمرّ حتى غاية 715م. ويُقال إن الوليد أنفق على البناء مئة قنطار ذهبٍ. وذكر ابن كثير أن الوليد قد أنفق على بناء الجامع خراج الشام سنتين، وفي رواية أخرى إن ما أنفق كان أربعمئة صندوق في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار. وتقول روايات أخرى إن تكلفة بناء هذا الجامع فاقت الخيال ويذكر أن الوليد بن عبد الملك خصص لبناء الجامع الأموي مجموع ضرائب الشام المالية لمدة سبع سنوات، إضافة إلى حمولات الذهب والفضة لثماني عشرة سفينة قادمة من قبرص، ويذكر ابن شاكر إنه استخدم في بناء الجامع: (مئتا صندوق يحتوي كل واحد منها على عشرين ألف دينار، ليكون المجموع الكلي خمسة ملايين وستمئة ألف دينار.) واستخدم إضافة إلى الرخام وأجزاء البناء القديمة، أربعون صندوقاً من الذهب للترصيع.
ويُقال إن اثني عشر ألف عاملٍ اشتغلوا في بناء الأموي، ويقول ابن عساكر إن الوليد كتب إلى نظيره البيزنطي يقول: (أرسل إلي مئتين من العمال الروم فأنا أنوي بناء مسجد لا نظير له في أي عاصمة من قبلي ومن بعدي...) ويروى أن الوليد استقدَمَ لبناء المسجد عدداً كبيراً من الصُّنّاع والبنّائين، من نواحٍ شَتَّى في أرجاء العالم الإسلامي، وإضافة إلى طلبه من البيزنطيين العمال المهرة، أحضر الوليد حذاق الفنانين من الهند وفارس، للعمل في المسجد. ولذلك صارَ هذا المسجد تحفة من تحف العمارة الإسلاميّة، ويقول ابن عساكر إن ما لا يقل عن اثني عشر ألفاً من صانعي الرخام عملوا في بناء المسجد..)، أما الرحالة الأندلسي ابن جبير فيذكر إنه كان هنالك اثنا عشر ألف حرفي أرسلوا من القسطنطينية.
ويذكر مؤلفون آخرون أن عدد العمال وصل إلى أربعين ألفاً، ويذكر ابن خلدون: (لقد بلغت قيمة ما تناوله العمال من الخضار أثناء أيام العمل ستة آلاف دينار..) ويشير ابن خلدون أن الحرفيين كانوا من بلاد فارس والهندوس والمغاربة والبيزنطيين إضافة إلى أهل الشــام، حيث استعان في عمارته بالمعماريين والمزخرفين من أهل الشام. ويقال في المسجد الأموي إن كلّ شيءٍ في بنائه يقبل القسمة على أربعة، فجدار القبلة عرضه 136م، وعدد النوافذ من الشرق والغرب 40 نافذة، وأبوابه أربعة، ومحاريبه أربعة، وعدد أعمدته 52 عموداً، ارتفاع كل واحدٍ فيها 8م، ووزنه 8 أطنان.
مكان نزول عيسى بن مريم
قال كيسان بن عبد الله بن طارق: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ينزل عيسى ابن مريم بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء). أخرجه البخاري في (تاريخه) وابن عساكر في (تاريخه) أيضاً كما في (كنز العمال). وأخرجه عبد القادر بدران في (تهذيب تاريخ ابن عساكر)، ولفظه: (ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق)، وروى مسلم عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل عيسى بن مريم عند المنارة شرقي دمشق) أي شرقي (جامع دمشق)، وقال العلامة ابن الوردي في الخريدة: ومنارة الجامع الشرقية يقال إن المسيح بن مريم (عليه السلام) ينزل عليها، وعندها حجر يقال إنه قطعة من الحجر الذي ضربه موسى (عليه السلام) بعصاه فانبجست (أي جرت واندفعت) منه اثنتا عشرة عيناً.
الخضر يصلي في المسجد الأموي
وروي أن الوليد بن عبد الملك أنفذ إلى القوم بجامع دمشق ليلة من الليالي، فقال: إني أريد أن أصلي الليلة في المسجد فلا تتركوا فيه أحداً (غيرنا) ثم إنه أتى إلى باب الساعات، فاستفتح الباب ففتح له فإذا رجل بين باب الساعات وباب (الخضراء) قائم يصلي – وباب (الخضراء) هو الباب الذي يلي المقصورة – فقال الوليد للقوم) ألم آمركم ألاّ تتركوا (فيه) أحداً فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، هذا الخضر قائم يصلي.
رأس يحيى عليه السلام
وروى زيد بن واقد – وكان موكلاً على العمال في بناء جامع دمشق – قال: وجدنا فيه مغارة فعرّفنا الوليد فلما كان الليل (وافى وبيديه) الشمع فنزل فإذا (موضع) ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع. وفيه صندوق: ففتحه فإذا فيه (سفط) وفي (السفط) رأس يحيى (بن زكريا عليهما الصلاة والسلام) مكتوب عليه: هذا رأس يحيى (بن زكريا عليهما الصلاة والسلام): فردّه إلى مكانه. وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيراً من بين الأعمدة فجعل عليه عموداً مسقط الرأس. وفي رواية: كانت البشرة (والشعر) على رأس يحيى لم تتغير، وقال أبو مسهر: رأس يحيى تحت العمود المسفط شرقي دمشق.
والنبي يحيى هو عند المسيحيين النبي يوحنا المعمدان وهو: ابن زكريا (النبي عليهم الصلاة والسلام) المذكور (في القرآن) بالفضائل الجليلة، ولم يتسمّ باسمه (أحد) قبله، واتفق العلماء على إنه قتل ظلماً شهيداً وأخذ رأسه، ووضع في طست وقُدم لأعدائه. ذكره النووي في تهذيب الأسماء.
قبر هود عليه السلام
وعن عثمان بن أبي (العاتكة) قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود (عليه الصلاة والسلام).
صخرة القربان
قال الحافظ عبد الواحد المقدسي (عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي ثم المقدسي ثم الدمشقي أبو الفرج (توفي 486هـ) شيخ الشام في وقته): عند باب جامع دمشق – المسمى بباب الساعات – صخرة عظيمة، كان قديماً يوضع عليها القربان فما تُقبل منه (نزلت) نار من السماء فأحرقته.
خلع النعال
كان الدخول إلى صحن الجامع الأموي بالنعال لأن الأرض جافة وغير مفروشة، إلى أن جاء إمام الجامع تقي الدين العمادي، فألزم الناس ألاّ يمشوا في الصحن إلا حفاة، فشق ذلك عليهم، ولكنه أصرّ وعمل على أبواب الجامع درابزينات وحواجز لخلع النعال وبقي ذلك إلى سنة 827 هجري حين عزل العمادي وعاد الناس إلى الدخول بنعالهم، وفي عام 722 منع المسؤول عن الجامع محمد بن عمر العثماني الدخول بالنعال بأمر من نائب الشام تنكز واستمرّ ذلك إلى عام 816 هجري حيث سمح بالمشي بالنعال، ثم منع ذلك في وقت غير معروف واستمر المنع إلى الآن.

مستوى الأرض
مستوى أرض الجامع اليوم أعلى من أرضه على عهد الوليد بن عبد الملك وأثناء الحفريات التي تمت في الجامع زمن المهندس الفرنسي ميشيل ايكوشار، حول قبة المال تبين أن قواعد الأعمدة على عمق ثلاثة أمتار، وعلى أغلب الظن أن أرض الجامع كانت تحت الأرض الحالية بنحو نصف متر.
حرائق
المعروف أن عام 461 شهد حريقاً كبيراً للجامع حين تقاتل العباسيون مع الفاطميين، فأصابت النار الأموي وأذهبت كل ما فيه، فلم يبق منه إلا الجدران الأربعة، وبقي المسجد مخرباً أربع عشرة سنة حتى جُدد السقف والقبة أيام ملكشاه السلجوقي على يد الوزير نظام الملك، وبقي صحن الجامع تراباً وطيناً، إلى أن قام الملك العادل بتبليط الصحن. وفي سنة 562 شهدت دمشق حريق حي اللبادين (النوفرة) فسرَت النار إلى الأموي، وفي سنة 570 احترقت مدرسة الكلاسة وامتدت النار إلى مئذنة العروس، واحترقت جدران الجامع وقسم من السقف عام 681 إثر حريق آخر لسوق اللبادين وسوق جيرون، واحترقت المئذنة الشرقية وقسم من الجانب الشرقي عام 740، وأصابه حريق جزئي سنة 1064، وسنة 1131 شمل الحريق كامل المسجد.
الزلازل
تعرض المسجد للعديد من الزلازل فكان زلزال سنة 131 الذي انشق منه المسجد على طوله، وسنة 233 خرب ربع المسجد، وسنة 552 كان زلزالاً عظيماً أضر أكبر الأضرار بالمسجد، وسقط قسم من المنارة الشرقية وتشققت قبة النسر عام 597، وسنة 702 تشققت بعض جدران المسجد، وتخرب جزء من المسجد وسقطت قبة عائشة إثر زلزال سنة 1173.
وأشهر نكبات الأموي المشهورة في أيامنا هذه هي حريق سنة 1893م زمن السلطنة العثمانية، حين أتت النيران على الجامع بكامله.

وأخيراً
يروى أن الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي المصلح الذي حكم من 86-96هجري /705-715ميلادي حين أتم بناء المسجد الأموي، وفي أول خطبة له من على منبر المسجد قال: "يا أهل دمشق، إنكم تفخرون على الناس بأربع: بهوائكم ومائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة، وهي هذا المسجد".
كان بناء الجامع من أكثر الأمور أهمية عنده الوليد بن عبد الملك والذي جاء آية من آيات الفن البديع والعمارة الإسلامية، وبالغ في تشييده وتزيينه؛ ليكون مظهراً لقوة الدولة ومبلغ حضارتها، وأنفق عليه أموالاً طائلة واستغرق بناؤه عهد الوليد كله فكان الجامع الأموي معجزة في دمشق حققها الخليفة الوليد.


شمس الدين العجلاني - أثينا 
alajlani.shams@hotmail.com