نزار قباني والوله الشآمي ...دمشق المحبوبة المثال... إنسان ووطن لا يلوثان
شاعرات وشعراء
الاثنين، ٢٥ نوفمبر ٢٠١٣
وحده نزار صنع من الشام محبوبة لا تدانى، وجعل نفسه عابداً في محراب جمالها وقداستها، وحده أخذها من عبق التاريخ والفخار والحضارة ليجعل منها محبوبة متحضّرة كاملة التحضّر ليخاطبها ويتعشقها بكل تفصيل من تفاصيلها، رافضاً أن تسأله شامه عن سبب هذا العشق والتعبد! وحده لامس عذوبة الشام ورقتها، فلم يبحث عن قصيدة عصماء وعن ألفاظ رنانة!
صاغها ياسمينة ووردة جورية وامرأة من أنوثة غير محدودة، ليكتب فيها ما تستحقه من خفقات قلبه وروحه وشعره، وحده حوّل الياسمين إلى بنادق، وحوّل الوردة الدمشقية إلى سياج للشام وإنسانها وأرضها، وجعل دمع العشق المسفوح لفراق أو أزمة إلى دم يفتدي به دمشق وزواريبها، وحده نزار جعل الشراشف في حب الشام أفخم كلمات الشعر التائقة أبداً إلى الإباء! وجعل الياسمينة معادلاً موضوعياً للتاريخ والفخار وما يمكن أن تحمل الشام في مسيرتها! اختصر التاريخ في قارورة ياسمين تصنعها أمه فايزة لتدلقها على ثيابه وجبهته وإبائه وشممه، واختصر المدائن في طريق فرعي يخرج من مئذنة الشحم ليدلف إلى الشارع المستقيم وحي الأمين ومكتب عنبر وباب توما.
وحده نزار جعل التاريخ تاريخاً ماضياً يشير فيه إلى خالد وصلاح الدين ومعاوية وميسون، بكى علياً والحسين في ابنه توفيق، بكى كربلاء الماضية والمتجددة، أعطى شهادة الطهر للمجدلية، وكانت البتول الطاهرة العذراء علامته، والمسيح يسوع تسامحه. وحده قرأ التاريخ ولم يعشه، وأدرك أن التاريخ الذي يعنيه هو الذي يصنعه. أليس هو القائل (وتاريخك يا مولاي تاريخ مزور)؟
التاريخ الذي نعرفه للشام محطة يقرؤها، يذكرها، لكنه لا يعيشها، ففي صفحة نور شعره اجتمع ما نظنه لا يجتمع، وتنادم من نظنهم لا يتنادمون: أين هما عينا معاوية؟ وأذكر حين أراك علياً وتذكر حين تراني الحسين. هذا هو التاريخ الذي مضى عند نزار، لكن الشام جعلته يكتب تاريخه الذي يريد.
أمام الشام وما تحتويه من حب ومجد، كان تاريخ دمشق تاريخ حب لا حقد فيه، تاريخ وله لا ألم فيه، تاريخ امرأة يعطيها نزار كل شيء، يذبح فيها، تتنكر له، تمنع عنه ماءها وهواءها، تحرّم شعره! لكنه يبقى على باب الهوى الدمشقي الداخلي لا يبرحه حتى تخرج له الشام حاملة ما تبقى من ياسمين جمعته أمه له، وكان حراماً على سواه.
نزار لم يتميز بشعر الشام بكثرته، فكثيرون قالوا!
نزار لم يقنع دمشق بحبه بالتصاقه، فكثيرون لم يغادروا!
نزار لم يهجر دمشق ليتشفى، كثيرون عقوها وهم في حضنها!
نزار أحب الشام هواء وماء وعطراً، أحبها حاضراً، أحبها حاضرة وإنساناً، تماهى فيها، تحول إلى ذرة من تراب لا تركن إلا على قناديل أبوابها، ولا تعرف الركون إلى الراحة، أحب دمشق وفي البعيد كان القافية الشاردة التي لا ترى رقة ولا حسناً إلا بالشام، وهل أعظم من أن يظهر الضد حسن الضد؟ لم يمارس عقوقاً مع محبوبته الشام في الهجر والوصال، فبقيت شامة الدنيا، وبقيت القداسة في الوجه، وبقيت الرحم الذي خرج منه، وبقيت التربة التي احتوت جسده، فقد آثر ألا يضوع ياسمين جسده في تربة غير تربتها. إنها كيمياء الهوى النزاري الذي عشق الشام ولم يكتفِ بالحب، انسرب في تفاصيلها، ولم يقف عند العلامات التي نراها، اقترب من لهب قناديلها فاحترق به، وجعل جسده زيتاً مقدساً للقناديل، ولم يكتف برؤية تراقص اللهب، عبّ ماء بردى، ولم يرشف من رشفة واحدة، وحين ساق شعره للشام كان بنكهة الماء المنساب في بردى، نقياً نقاء ثلج جبل الشيخ، شامخاً شموخه، طاهراً كالعذراء، سمحاً كيسوع، كبيراً كمحمد، مظلوماً كالمجدلية، مفتدياً كالحسين، علامة كعلي، حكيماً كمعاوية، متمرّداً كميسون، ثائراً كجميلة ورفيقاتها.
إنه نزار، وإنه الوله الشامي الذي لم يكن من قبل... ولن يكون من بعد...
صفة نزار اللصيقة، وعلامة الشام النزارية التي تفوّقت بها على البلدان...
ليس من كثرة كان شاعرها، وليس من فخامة لفظ، بل من تماه ورقة وذوبان للذات في الذات، وافتداء الإنسان لوطنه من صرخة الميلاد إلى طهارة كفن الرحيل، فيبقى نزار العاشق الأبدي، وتبقى الشام معشوقته الأسمى التي طارحها الهوى في كل مكان وزاروب، وعلى كل حجر من حجارة طرقاتها وأرصفتها، فكان المذبوح، وكان الدم حباً للشام، وهل أسمى من الحب الذبّاح الذي لا يبقي على شيء من العاشق؟
وتبقى تعويذات نزار على صدر شام تحفظها، وتعبر بها إلى شاطئ أمان لا نظنه، لكنه يراه ويمهد له الطريق من الباب الصغير إلى كل الأبواب والزوايا والطرقات... ستخرج من الزواريب لكن نزاراً لا يبوح، فأجمل الحب حب بعد ما قيلا.
من رائعته (من مفكرة عاشق دمشقي) التي ألقاها في دمشق عام 1971 بعد أربع سنوات من الفراق لها:
فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟
جيبتي أنت فاستلقي كأغنية
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما من امرأة
أحببت بعدك إلا خلتها كذبا
يا شام إن جراحي لا ضفاف لها
فمسّحي عن جبيبني الحزن والتعبا
يا شام أين هما عينا معاوية
وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
يا شام يا شام ما في جعبتي طرب
أستغفر الشعر أن يستجدي الطربا
ومن قصيدته (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي):
يا زماناً في الصالحية سمحاً
أين مني الغوى، وأين الفتون؟
يا سريري ويا شراشف أمي
يا عصافير... يا شذا... يا غصون
يا زواريب حارتي خبئيني
بين جفنيك فالزمان ضنين
ها هي الشام بعد فرقة دهر
أنهر سبعة وحور عين
النوافير في البيوت كلام
والعناقيد سكّر مطحون
هل دمشق- كما يقولون- كانت
حين في الليل فكّر الياسمين؟
آه يا شام كيف أشرح ما بي
وأنا فيك دائماً مسكون؟
سامحيني إن لم أكاشفك بالعشق
فأحلى ما في الهوى التضمين
يا دمشق التي تقمصت فيها
هل أنا السرو، أم أنا الشربين؟
أم أنا الفل في أباريق أمي
أم أنا العشب والسحاب الهتون؟
يا دمشق التي تغشى شذاها
تحت جلدي كأنه الزيزفون
سامحيني إذا اضطربت فإني
لا مقفى حبي ولا موزون
وازرعيني تحت الضفائر مشطاً
فأريك الغرام كيف يكون
قادم من مدائن الريح وحدي
فاحتضني كالطفل يا قاسيون
احتضني خمسين ألفاً وألفاً
فمع الضم لا يجوز السكون
أهي مجنونة بشوقي إليها
هذه الشام، أم أنا المجنون
وفي مواله الشامي يرندح نزار:
لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا
وقد بكينا وبللنا المناديلا
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا
قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا
يا شام يا شامة الدنيا ووردتها
يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
وددت لو رزعوني فيك مئذنة
أو علقوني على الأبواب قنديلا
يا بلدة السبعة الأنهار يا بلدي
ويا قميصاً بزهر الخوخ مشغولا
ويا حصاناً تخلى عن أعنته
وراح يفتح معلوماً ومجهولا
هواك يا بردى كالسيف يسكنني
وما ملكت لأمر الحب تبديلا
ما للدمشقية الكانت حبيبتنا
لا تذكر الآن طعم القبلة الأولى
أيام في دمر كنا وكان فمي
على ضفائرها حفراً وتنزيلا
والنهر يسمعنا أحلى قصائده
والسرد يلبس بالساق الخلاخيلا
يا من على ورق الصفصاف يكتبني
شعراً وينقشني في الأرض أيلولا
يا من يعيد كراريسي ومدرستي
والقمح واللوز والزرق المواويلا
يا شام إن كنت أخفي ما أكابده
فأجمل الحب حب بعد ما قيلا
وفي إسبانيا يعود إلى الشام:
شوارع غرناطة في الظهيرة
حقول من اللؤلؤ الأسود
فمن مقعدي
أرى وطني في العيون الكبيرة
أرى مئذنات دمشق
مصورة فوق كل ضفيرةْ
وفي مشهد آخر يقول:
كتبت لي يا غالية
كتبت تسألين عن إسبانية
عن طارق
يفتح باسم الله دنيا ثانية
عن عقبة بن نافع
يزرع شتل نخلةٍ
في قلب كل رابيةْ
سألت عن أميةٍ
سألت عن أميرها معاويةْ
عن السرايا الزاهية
تحمل من دمشق في ركابها
حضارة
وعافية
لم يبق في إسبانية
منا
ومن عصورنا الثمانية
غير الذي يبقى من الخمر
بجوف الآنية
وأعين كبيرة كبيرة
ما زال في سوادها
ينام ليل الباديةْ
وقصيدته الدمشقية التي تبدأ بمقدمة نثرية أعلى من الشعر يختم المقدمة ليدلف إلى الدمشقية:
فيا أهل الشام
من وجدني منكم فليردني إلى أم المعتز
وثوابه عند الله
أنا عصفوركم الأخضر يا أهل الشام
فمن وجدني منكم فليطعمني حبهة قمح
أنا وردتكم الدمشقية يا أهل الشام
أنا شاعركم المجنون يا أهل الشام
أنا قمركم المشرد يا أهل الشام...
هذي دمشق وهذي الكاس والراح
إني أحب وبعض الحب ذبّاح
أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي
لسال منه عناقيد وتفاح
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
سمعتم في دمي أصوات من راحوا
زراعة القلب تشفي بعض من عشقوا
وما لقلبي إذا أحببت جرّاح
إن النبيذ هنا نار معطرة
فهل عيون نساء الشام أقداح
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواح
للياسمين حقوق في منازلنا
وقطعة البيت تغفو حيث ترتاح
هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي
فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟
كم من دمشقية باعت أساورها
حتى أغازلها والشعر مفتاح
أتيت يا شجر الصفصاف معتذراً
فهل تسامح هيفاء ووضاح؟
صاغها ياسمينة ووردة جورية وامرأة من أنوثة غير محدودة، ليكتب فيها ما تستحقه من خفقات قلبه وروحه وشعره، وحده حوّل الياسمين إلى بنادق، وحوّل الوردة الدمشقية إلى سياج للشام وإنسانها وأرضها، وجعل دمع العشق المسفوح لفراق أو أزمة إلى دم يفتدي به دمشق وزواريبها، وحده نزار جعل الشراشف في حب الشام أفخم كلمات الشعر التائقة أبداً إلى الإباء! وجعل الياسمينة معادلاً موضوعياً للتاريخ والفخار وما يمكن أن تحمل الشام في مسيرتها! اختصر التاريخ في قارورة ياسمين تصنعها أمه فايزة لتدلقها على ثيابه وجبهته وإبائه وشممه، واختصر المدائن في طريق فرعي يخرج من مئذنة الشحم ليدلف إلى الشارع المستقيم وحي الأمين ومكتب عنبر وباب توما.
وحده نزار جعل التاريخ تاريخاً ماضياً يشير فيه إلى خالد وصلاح الدين ومعاوية وميسون، بكى علياً والحسين في ابنه توفيق، بكى كربلاء الماضية والمتجددة، أعطى شهادة الطهر للمجدلية، وكانت البتول الطاهرة العذراء علامته، والمسيح يسوع تسامحه. وحده قرأ التاريخ ولم يعشه، وأدرك أن التاريخ الذي يعنيه هو الذي يصنعه. أليس هو القائل (وتاريخك يا مولاي تاريخ مزور)؟
التاريخ الذي نعرفه للشام محطة يقرؤها، يذكرها، لكنه لا يعيشها، ففي صفحة نور شعره اجتمع ما نظنه لا يجتمع، وتنادم من نظنهم لا يتنادمون: أين هما عينا معاوية؟ وأذكر حين أراك علياً وتذكر حين تراني الحسين. هذا هو التاريخ الذي مضى عند نزار، لكن الشام جعلته يكتب تاريخه الذي يريد.
أمام الشام وما تحتويه من حب ومجد، كان تاريخ دمشق تاريخ حب لا حقد فيه، تاريخ وله لا ألم فيه، تاريخ امرأة يعطيها نزار كل شيء، يذبح فيها، تتنكر له، تمنع عنه ماءها وهواءها، تحرّم شعره! لكنه يبقى على باب الهوى الدمشقي الداخلي لا يبرحه حتى تخرج له الشام حاملة ما تبقى من ياسمين جمعته أمه له، وكان حراماً على سواه.
نزار لم يتميز بشعر الشام بكثرته، فكثيرون قالوا!
نزار لم يقنع دمشق بحبه بالتصاقه، فكثيرون لم يغادروا!
نزار لم يهجر دمشق ليتشفى، كثيرون عقوها وهم في حضنها!
نزار أحب الشام هواء وماء وعطراً، أحبها حاضراً، أحبها حاضرة وإنساناً، تماهى فيها، تحول إلى ذرة من تراب لا تركن إلا على قناديل أبوابها، ولا تعرف الركون إلى الراحة، أحب دمشق وفي البعيد كان القافية الشاردة التي لا ترى رقة ولا حسناً إلا بالشام، وهل أعظم من أن يظهر الضد حسن الضد؟ لم يمارس عقوقاً مع محبوبته الشام في الهجر والوصال، فبقيت شامة الدنيا، وبقيت القداسة في الوجه، وبقيت الرحم الذي خرج منه، وبقيت التربة التي احتوت جسده، فقد آثر ألا يضوع ياسمين جسده في تربة غير تربتها. إنها كيمياء الهوى النزاري الذي عشق الشام ولم يكتفِ بالحب، انسرب في تفاصيلها، ولم يقف عند العلامات التي نراها، اقترب من لهب قناديلها فاحترق به، وجعل جسده زيتاً مقدساً للقناديل، ولم يكتف برؤية تراقص اللهب، عبّ ماء بردى، ولم يرشف من رشفة واحدة، وحين ساق شعره للشام كان بنكهة الماء المنساب في بردى، نقياً نقاء ثلج جبل الشيخ، شامخاً شموخه، طاهراً كالعذراء، سمحاً كيسوع، كبيراً كمحمد، مظلوماً كالمجدلية، مفتدياً كالحسين، علامة كعلي، حكيماً كمعاوية، متمرّداً كميسون، ثائراً كجميلة ورفيقاتها.
إنه نزار، وإنه الوله الشامي الذي لم يكن من قبل... ولن يكون من بعد...
صفة نزار اللصيقة، وعلامة الشام النزارية التي تفوّقت بها على البلدان...
ليس من كثرة كان شاعرها، وليس من فخامة لفظ، بل من تماه ورقة وذوبان للذات في الذات، وافتداء الإنسان لوطنه من صرخة الميلاد إلى طهارة كفن الرحيل، فيبقى نزار العاشق الأبدي، وتبقى الشام معشوقته الأسمى التي طارحها الهوى في كل مكان وزاروب، وعلى كل حجر من حجارة طرقاتها وأرصفتها، فكان المذبوح، وكان الدم حباً للشام، وهل أسمى من الحب الذبّاح الذي لا يبقي على شيء من العاشق؟
وتبقى تعويذات نزار على صدر شام تحفظها، وتعبر بها إلى شاطئ أمان لا نظنه، لكنه يراه ويمهد له الطريق من الباب الصغير إلى كل الأبواب والزوايا والطرقات... ستخرج من الزواريب لكن نزاراً لا يبوح، فأجمل الحب حب بعد ما قيلا.
من رائعته (من مفكرة عاشق دمشقي) التي ألقاها في دمشق عام 1971 بعد أربع سنوات من الفراق لها:
فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟
جيبتي أنت فاستلقي كأغنية
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما من امرأة
أحببت بعدك إلا خلتها كذبا
يا شام إن جراحي لا ضفاف لها
فمسّحي عن جبيبني الحزن والتعبا
يا شام أين هما عينا معاوية
وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
يا شام يا شام ما في جعبتي طرب
أستغفر الشعر أن يستجدي الطربا
ومن قصيدته (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي):
يا زماناً في الصالحية سمحاً
أين مني الغوى، وأين الفتون؟
يا سريري ويا شراشف أمي
يا عصافير... يا شذا... يا غصون
يا زواريب حارتي خبئيني
بين جفنيك فالزمان ضنين
ها هي الشام بعد فرقة دهر
أنهر سبعة وحور عين
النوافير في البيوت كلام
والعناقيد سكّر مطحون
هل دمشق- كما يقولون- كانت
حين في الليل فكّر الياسمين؟
آه يا شام كيف أشرح ما بي
وأنا فيك دائماً مسكون؟
سامحيني إن لم أكاشفك بالعشق
فأحلى ما في الهوى التضمين
يا دمشق التي تقمصت فيها
هل أنا السرو، أم أنا الشربين؟
أم أنا الفل في أباريق أمي
أم أنا العشب والسحاب الهتون؟
يا دمشق التي تغشى شذاها
تحت جلدي كأنه الزيزفون
سامحيني إذا اضطربت فإني
لا مقفى حبي ولا موزون
وازرعيني تحت الضفائر مشطاً
فأريك الغرام كيف يكون
قادم من مدائن الريح وحدي
فاحتضني كالطفل يا قاسيون
احتضني خمسين ألفاً وألفاً
فمع الضم لا يجوز السكون
أهي مجنونة بشوقي إليها
هذه الشام، أم أنا المجنون
وفي مواله الشامي يرندح نزار:
لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا
وقد بكينا وبللنا المناديلا
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا
قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا
يا شام يا شامة الدنيا ووردتها
يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
وددت لو رزعوني فيك مئذنة
أو علقوني على الأبواب قنديلا
يا بلدة السبعة الأنهار يا بلدي
ويا قميصاً بزهر الخوخ مشغولا
ويا حصاناً تخلى عن أعنته
وراح يفتح معلوماً ومجهولا
هواك يا بردى كالسيف يسكنني
وما ملكت لأمر الحب تبديلا
ما للدمشقية الكانت حبيبتنا
لا تذكر الآن طعم القبلة الأولى
أيام في دمر كنا وكان فمي
على ضفائرها حفراً وتنزيلا
والنهر يسمعنا أحلى قصائده
والسرد يلبس بالساق الخلاخيلا
يا من على ورق الصفصاف يكتبني
شعراً وينقشني في الأرض أيلولا
يا من يعيد كراريسي ومدرستي
والقمح واللوز والزرق المواويلا
يا شام إن كنت أخفي ما أكابده
فأجمل الحب حب بعد ما قيلا
وفي إسبانيا يعود إلى الشام:
شوارع غرناطة في الظهيرة
حقول من اللؤلؤ الأسود
فمن مقعدي
أرى وطني في العيون الكبيرة
أرى مئذنات دمشق
مصورة فوق كل ضفيرةْ
وفي مشهد آخر يقول:
كتبت لي يا غالية
كتبت تسألين عن إسبانية
عن طارق
يفتح باسم الله دنيا ثانية
عن عقبة بن نافع
يزرع شتل نخلةٍ
في قلب كل رابيةْ
سألت عن أميةٍ
سألت عن أميرها معاويةْ
عن السرايا الزاهية
تحمل من دمشق في ركابها
حضارة
وعافية
لم يبق في إسبانية
منا
ومن عصورنا الثمانية
غير الذي يبقى من الخمر
بجوف الآنية
وأعين كبيرة كبيرة
ما زال في سوادها
ينام ليل الباديةْ
وقصيدته الدمشقية التي تبدأ بمقدمة نثرية أعلى من الشعر يختم المقدمة ليدلف إلى الدمشقية:
فيا أهل الشام
من وجدني منكم فليردني إلى أم المعتز
وثوابه عند الله
أنا عصفوركم الأخضر يا أهل الشام
فمن وجدني منكم فليطعمني حبهة قمح
أنا وردتكم الدمشقية يا أهل الشام
أنا شاعركم المجنون يا أهل الشام
أنا قمركم المشرد يا أهل الشام...
هذي دمشق وهذي الكاس والراح
إني أحب وبعض الحب ذبّاح
أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي
لسال منه عناقيد وتفاح
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
سمعتم في دمي أصوات من راحوا
زراعة القلب تشفي بعض من عشقوا
وما لقلبي إذا أحببت جرّاح
إن النبيذ هنا نار معطرة
فهل عيون نساء الشام أقداح
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواح
للياسمين حقوق في منازلنا
وقطعة البيت تغفو حيث ترتاح
هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي
فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟
كم من دمشقية باعت أساورها
حتى أغازلها والشعر مفتاح
أتيت يا شجر الصفصاف معتذراً
فهل تسامح هيفاء ووضاح؟