25 عاماً من السينما 50 عاماً من الحياة
سينما
الجمعة، ٢٣ يناير ٢٠١٥
بعد أسابيع من انقضاء العام الذي تذكرت فيه فرنسا رحيل فرانسوا تروفو، ها هي جمعية «متروبوليس» تقيم في بيروت موسماً يكاد يكون شاملاً لسينما هذا المخرج الفرنسي الكبير تعرض فيه عدداً من أبرز أفلامه هو الذي كان عرض في لبنان عام 1973 واحداً من أجمل هذه الأفلام وناقش خلال عرضه جمهوراً عريضاً، ونعني به فيلمه «الليل الأميركي». هنا للمناسبة نستذكر فرانسوا تروفو وبعض ملامح سينماه.
كان تروفو علماً من أعلام السينما والفن في أوروبا وفرنسا. وهو حين رحل عن عالمنا في العام 1984، كان في قمة مجده، هو الذي كان واحداً من الذين أسسوا الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في سنوات الخمسين، كما كان واحداً من أبرز مؤسسي النقد السينمائي الحديث في فرنسا... وهو بدماثته وهدوئه وحبه المطلق لفن السينما وتكتمه الشديد على كل ما يتعلق بحياته الخاصة، كان مثالاً يحتذى. ولئن كان تروفو قد وضع نتفاً من حياته ومن سيرته في عدد لا بأس به من أفلامه، فإنه بالكاد كان يمكن لأحد أن يربط تماماً بين تلك النتف والسيرة الشخصية لصاحبها، حتى وإن كانت حكايات أنطوان دوانيل (عبر أربعة أفلام هي من أجمل ما حقق تروفو)، كانت تبدو انعكاساً لبعض حياة تروفو وأفكاره، ما جعل كثراً يعتبرون أنطوان دوانيل (ولعب الدور دائماً جان - بيار ليو منذ كان صبياً صغيراً، حتى أصبح رجلاً أخرق) صورة ما لتروفو نفسه.
حين رحل تروفو عن عالمنا خلّف وراءه أكثر من عشرين فيلماً طويلاً، كان آخرها «يا حبذا يوم الأحد» وهو فيلم بالأسود والأبيض أتى ليخفي خلف مرحه وخفة موضوعه قدراً كبيراً من الحزن. ولسوف يتبين لاحقاً أن تروفو كان حين حققه، يعرف أن مرضه العضال لن يسمح له بالعيش طويلاً. وهو حتى، من دون أن يحاول أن يجعل من هذا الفيلم وصيته الفنية، أغرقه في مزاجية حادة. ولعل ما يلفت هو ان رفيقة تروفو في ذلك الحين الممثلة فاني أردان، وضعت له ابنته الأخيرة بعد الانتهاء من العمل في الفيلم، علماً أن أمه كانت ماتت فور انتهائه من تصوير فيلمه الأول «الضربات الأربعمئة» قبل ذلك بربع قرن بالتمام والكمال.
وربع القرن هذا هو، بالتحديد، عمر فرانسوا تروفو المهني. فمساره كمخرج، والذي ابتدأ في العام 1959 انتهى في العام 1984. لكن حب تروفو للسينما وذوبانه التام فيها كانا قد بدآ قبل ذلك بزمن طويل... بالتحديد، وكما يخبرنا في فيلمه الأول، منذ كان صبياً، يهرب من الصف ليتسلل إلى صالات السينما ويشاهد الأفلام، ومنذ كان، في غفلة عن حراس الصالات، يسرق صور الأفلام المعلقة على الجدران.
السينما والحياة
مع فرانسوا تروفو، يصح تماماً القول إن الحياة هي السينما والسينما هي الحياة، وعلى أية حال، كان هو، كما نعرف، صاحب القول الأشهر في حب السينما: «من يحب السينما يحب الحياة.. ومن يحب الحياة يحب السينما». ومن هنا لا يعود غريباً ذلك الاندماج بين السينما والحياة لدى هذا الفنان الكبير.
في الحياة إذن، ولد فرانسوا تروفو يوم 6 شباط (فبراير) 1932 لأمه جانين دي مونفران... التي كانت حملت به من دون زواج. وإذ تزوجها لاحقاً رولان تروفو، قبل هذا الرجل أن يمنح الطفل اسمه ورعايته... ولكن لشهور قليلة، بدا الطفل بعدها وكأنه عبء على الزوجين البائسين اللذين صار كل همهما التخلص منه أو الحد من نزعته التمردية حين شب عن الطوق. أما هو فسنعرف بعد عقود طويلة أن سؤالاً واحداً راح يقلقه: من هو أبوه؟
وفي السينما، ولد فرانسوا تروفو، بعد مخاض سنوات، في العام 1959، حين أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول «الضربات الأربعمئة» وعرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» لذلك العام، حيث نال جائزة الإخراج. والحقيقة أن الولادة كانت في ذلك اليوم مزدوجة: ولادة مخرج، وولادة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. وكان مخاض هذه الولادة الأخيرة قد دام نحو عقد من السنين. أي منذ تحلق تروفو وجان لوك غودار وأريك رومر وكلود شابرول وجاك ريفيت، من حول «أبيهم» جميعاً بالتبني أندريه بازان، ومن حول مجلة «كراسات السينما»، راغبين في تثوير الفن السابع عبر خلق نمط جديد من العلاقة مع الشاشة.
المهم هنا، هو أن العام 1959، كان مفصلياً في حياة تروفو، حيث من النقد والاهتمام الثقافي بالسينما، إلى الإخراج، خطوة خطاها، في نفس الوقت الذي قام فيه شابرول وغودار والآخرون بخطوات مماثلة. وكان السر أفلاماً من غير كلفة باهظة، لا نجوم كباراً فيها ولا ديكورات، أفلاماً تخرج السينما الفرنسية من بلادة وثرثرة كانت تعيش فيهما.
وهكذا، اذا كانت سيرة فرانسوا تروفو قبل 1959، تبدو متنوعة ومتموجة ومأساوية أحياناً، فإن سيرته بعد 1959، تبدو ممتزجة تماماً بأفلامه وهنا حتى «الأسرار» المتعلقة بحياة تروفو الشخصية خلال النصف الثاني من حياته وحتى مماته، إذا كان زمن قد مضى قبل الكشف بسبب تكتم تروفو، وظهوره الأنيق الدائم تحت سمات الرجل الذي لا مشاكل لديه، فمرة أخرى لابد من القول إن الإمعان في دراسة تفاصيل افلامه، سيقول لنا الكثير: سنجد الرجل غير المستقر، الذي يغير امرأته في شكل متواصل... وهو ربما صاحب كل ممثلة مثلت معه، من كلود جاد إلى كاترين دونوف، ومن فرانسواز دورلياك إلى جولي كريستي، وصولاً إلى فاني آردان آخر نسائه. وسنجد الإنسان القلق الباحث عن انتماء عائلي لا يجده أبداً. وسنجد الرجل الشهواني الذي يبحث في منتصف الليالي عن عاهرات يقضي معهن وقتاً.
في ثنايا أفلام تروفو سنجد كل شيء. لكننا سنجد أيضاً، وبخاصة، السينما. وإلى جانب السينما سنجد ذلك الولع بالأدب البوليسي، وبالعلاقات بين الناس... وبأمور عديدة هي التي شكلت العلامات الأساس في نحو دزينتين من أفلام حققها تروفو... وخاض عبرها، عدداً لا بأس به من الأنواع السينمائية.
والحقيقة أن في وسعنا أن نتبع هنا تقسيماً لسينما فرانسوا تروفو يأتي على الشكل التالي:
الأفلام التي تدنو من الذاتية عن طريق الأنا - الآخر: أنطوان دوانيل، وقام بالدور جان - بيار ليو كما أشرنا، منذ أول فيلم في هذه المجموعة («الضربات الأربعمئة» 1959)، وحتى الأخير «الحب الهارب» (1978) مروراً بـ «قبلات مسروقة» (1968 )، و «منزل زوجي» ( 1970 ). والحقيقة أن في إمكاننا أن نضيف إلى هذه الأفلام الأربعة فيلمين قصيرين لتروفو هما «البستون» (1957) و «أنطوان وكوليت» (1962). في «الضربات الأربعمئة» كان أنطوان دوانيل في الرابعة عشرة، مشرداً في الشوارع هائماً بحب السينما يتساءل حول العائلة والحرمان. أما في «قبلات مسروقة» فلدينا أنطوان وقد صار راشداً الآن يعيش ارتباكاً واضحاً أمام كل امرأة... لكنه لا يزال حالماً. من حول انطوان هذا، وضع تروفو في هذا الفيلم جملة من شخصيات غريبة وحنونة في فيلم مسلٍ لكنه عميق.
في «منزل زوجي» يحدث لأنطوان أن يصعد في السلم الاجتماعي فيتزوج. ولكن من دون أن يتخلى عن أحلامه وارتباكه وإخفاقاته. وإذا كان تروفو قد حقق هذا الفيلم استجابة لطلب هنري لانغلوا (رئيس السينماتيك الفرنسية) الذي حين شاهد «قبلات مسروقة» عبّر عن رغبته في أن يشاهد ثنائيّه يتحرك على الشاشة من جديد، فإنه - أي تروفو - عاد وحقق لاحقاً «الحب الهارب» ليصور أنطوان دوانيل في لحظة رسم جردة لحياته وقد أضحى الآن في الخامسة والثلاثين، متذكراً كل اللحظات الكبيرة والحاسمة في تلك الحياة، وقد عزم على أن يظل مراهقاً إلى الأبد.
بين الأدب والمسرح
بعد تلك المجموعة الأولى من أفلام تروفو تأتي مجموعة ثانية تتألف من فيلمين ويطلق عليها اسم «تروفو والطفولة». والحقيقة أن هذين الفيلمين لا يمكن أبداً فصلهما عن المجموعة الأولى، حتى وإن لم تكن لأي منهما علاقة مباشرة بسيرة تروفو الذاتية. فالفيلم الأول وعنوانه «الطفل الضاري» ، هو عمل بالأسود والأبيض حققه تروفو في العام 1969، انطلاقاً من حكاية حقيقية يرويها دكتور يدعى آيتار (يقوم تروفو بدور الدكتور في الفيلم) عن اكتشافه لطفل منعزل ضار، وتولّيه أنسنته وتربيته. والحقيقة أن هذا الفيلم إنما يكشف اهتمام تروفو الدائم ليس فقط بمسألة الطفولة، بل كذلك بمسألة العلاقة مع الأب. إذ، حتى لو كان هو الأب هنا، فإن الطفل أيضاً (بتمرده وعلاقته بالآخر: الدكتور) يبدو صورة مواربة لتروفو... في علاقته، مثلاً، مع أندريه بازان. أما الفيلم الثاني الذي يكمل هذه «المجموعة» فهو «مصروف الجيب» الذي حققه تروفو في العام 1976، من حول أستاذ وزوجته الحامل وعدد من تلامذته... حيث - بقدر كبير من الحنان والتعاطف - يصف لنا المخرج الحياة اليومية لأولئك الصغار الذين يعيشون على هامش حياة الكبار، في هواجسهم اليومية ومخاوفهم. هنا أيضاً، في هذا الفيلم، لم يفت النقاد أن يروا جزءاً من سيرة - ولو متخيلة - لفرانسوا تروفو. وكذلك فعل النقد بالنسبة إلى فيلم «آديل ه». الذي حققه تروفو لاحقًا عن سيرة ابنة فكتور هوغو.
فرانسوا تروفو، المولع بالسينما حتى الوله، وحتى الاندماج الخالص... والمولع كذلك، من خلال السينما بكل أنواع الفنون والأداب، كان لا بد له في أفلام أساسية حققها أن يغوص في الأدب وفي الفن... كما في السينما نفسها، معلناً أن ما من خلاص لكآبة الكون ورتابة الحياة إلا في الفنون وعبرها. ولعل في إمكاننا أن ننظر إلى واحد من أول وأجمل أفلامه وهو «فهرنهايت 451»، المأخوذ عن رواية للأميركي راي برادبري على أنه فعل إيمان حقيقي بالأدب وبالكتابة في شكل عام. هذا بالنسبة إلى الأدب والكتاب، أما بالنسبة إلى السينما، فإن تروفو هو الذي سيحقق في العام 1973، واحداً من أجمل الأفلام التي حققت عن السينما في تاريخها: «الليل الأميركي» الذي هو، من خلال لعبة الفيلم داخل الفيلم، ومن خلال تصوير تروفو لنفسه كمخرج يحقق فيلماً جديداً له، قدم تحية حب لهذا الفن الذي ما كان في وسع مخرج من طراز تروفو أن يفصله عن الحياة نفسها. ولم يكن صدفة أن يفوز هذا الفيلم، عام عرضه، بأوسكار أحسن فيلم أجنبي في هوليوود، مع أن لا حكاية فيه ولا خدع سينمائية، بل فن السينما في نقائه الخالص.
وإلى جانب الأدب والسينما، وإلى جانب حكاية الحب الرومانسية التي كانها واحد من أول وأجمل أفلامه، «جول وجيم» كان للمسرح كذلك نصيب من فن تروفو، وذلك عبر فيلم «المترو الأخير» وهو أحد من أجمل الأفلام التي حققها وأقواها. ولقد فاز «المترو الأخير» في العام 1980 بعشر جوائز سيزار متوجاً مسار تروفو وفنه، قبل أربع سنوات من رحيله. وهذا الفيلم الذي يلعب بطولته كاترين دونوف وجيرار ديبارديو، تدور أحداثه في باريس أيام احتلال النازيين الألمان لها، من حول ممثلة مسرح هرب زوجها من النازيين فتولت هي إدارة العمل مكانه، فيما اختبأ الزوج في قبو المسرح، يشهد حزيناً، غراماً يتقد بين زوجته وممثل المسرحية الرئيسي. هنا وبصرف النظر عن موضوع الفيلم و «رسالته» عرف تروفو كيف يعيّش متفرجيه وسط أجواء المسرح ويصوّر زمن الاحتلال الفرنسي تصويراً خلاقاً... ما جعل الفيلم فيلم أجواء ولا يزال يعتبر إلى اليوم واحداً من أجمل الأفلام الفرنسية التي حققت خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
في الأدب أيضاً، ولكن هذه المرة في الأدب البوليسي التشويقي الذي كان من الطبيعي لعاشق سينما هيتشكوك أن يشغف به أيضاً، حقّق فرانسوا تروفو خمسة أفلام - منها ثلاثة بوليسية خالصة، واثنان يقتربان، قليلاً أو كثيراً، من عالم السينما البوليسية، ومعظمها مقتبس من روايات أميركية الأصل.
إطلالة تروفو الأولى على فيلم التشويق كانت إذاً، مبكرة، أي في العام 1960، حين حقّق «أطلقوا النار على عازف البيانو» من بطولة شارل أزنافور... وهو فيلم تختلط فيه الجريمة بالفن بعالم الليل بالحب، من خلال حكاية عازف يعمل في بار ليلي ويعيش مكتئباً هناك منذ انتحار زوجته واكتشافه خيانتها له. وهناك في البار يلتقي نادلة تقرّر أن تخرجه من الحال التي هو فيها... لتعيده إلى فنه، لكن الثمن لن يكون زهيداً.
وفي العام 1968، اكتشف تروفو، ضمن قراءاته البوليسية كاتباً لم يكن معروفاً في ذلك الحين هو ويليام آيريش، وعلى الفور وقع في هوى أول رواية قرأها لآيريش ليحقق انطلاقاً منها فيلمه «العروس كانت ترتدي ثياب الحداد»، من بطولة جان مورو، عن عروس قتل زوجها يوم عرسهما، فتقرر - وتنفّذ - انتقامها العنيف والبطيء من كل أولئك الذين اكتشفت أنهم تآمروا على عريسها وخطّطوا لقتله وقتلوه.
يومها ما إن عرض هذا الفيلم وراح يحقق نجاحاً، حتى كان تروفو قد شرع في تحقيق تال له، عن رواية أخرى لويليام آيريش عنوانها هذه المرة «حورية الميسيسيبي»، وجعل البطولة لكاترين دونوف، في دور عروس آتية من أميركا ليقترن بها صناعي فرنسي ثري كان تعرّف بها عن طريق المراسلة.
أما آخر حبة في عنقود هذه المجموعة فهو الفيلم الأخير الذي حقّقه فرانسوا تروفو: «يا حبذا.. يوم الأحد» (1984) والذي عاد فيه إلى الأسود والأبيض وإلى بساطة الموضوع وكأنه يترك عبر فيلم تشويقي - كوميدي، وصيته السينمائية الأخيرة. هذا الفيلم اقتبسه تروفو، على عادته في أفلامه التشويقية، من رواية للكاتب تشازلز وليامز، لكنه حوّر كثيراً في المناخ العام ليربط الفيلم بما اعتاده من مناخات... ولقد نجح الفيلم ما كان يعد بانطلاقة جديدة لهذا الفنان، كان من أوائل مشاريعها فيلم «السارقة الصغيرة» الذي رحل من دون ان يبدأ في تصويره، فحقّقه كلود ميلر، الذي كان شاركه في كتابة السيناريو.
كان تروفو علماً من أعلام السينما والفن في أوروبا وفرنسا. وهو حين رحل عن عالمنا في العام 1984، كان في قمة مجده، هو الذي كان واحداً من الذين أسسوا الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في سنوات الخمسين، كما كان واحداً من أبرز مؤسسي النقد السينمائي الحديث في فرنسا... وهو بدماثته وهدوئه وحبه المطلق لفن السينما وتكتمه الشديد على كل ما يتعلق بحياته الخاصة، كان مثالاً يحتذى. ولئن كان تروفو قد وضع نتفاً من حياته ومن سيرته في عدد لا بأس به من أفلامه، فإنه بالكاد كان يمكن لأحد أن يربط تماماً بين تلك النتف والسيرة الشخصية لصاحبها، حتى وإن كانت حكايات أنطوان دوانيل (عبر أربعة أفلام هي من أجمل ما حقق تروفو)، كانت تبدو انعكاساً لبعض حياة تروفو وأفكاره، ما جعل كثراً يعتبرون أنطوان دوانيل (ولعب الدور دائماً جان - بيار ليو منذ كان صبياً صغيراً، حتى أصبح رجلاً أخرق) صورة ما لتروفو نفسه.
حين رحل تروفو عن عالمنا خلّف وراءه أكثر من عشرين فيلماً طويلاً، كان آخرها «يا حبذا يوم الأحد» وهو فيلم بالأسود والأبيض أتى ليخفي خلف مرحه وخفة موضوعه قدراً كبيراً من الحزن. ولسوف يتبين لاحقاً أن تروفو كان حين حققه، يعرف أن مرضه العضال لن يسمح له بالعيش طويلاً. وهو حتى، من دون أن يحاول أن يجعل من هذا الفيلم وصيته الفنية، أغرقه في مزاجية حادة. ولعل ما يلفت هو ان رفيقة تروفو في ذلك الحين الممثلة فاني أردان، وضعت له ابنته الأخيرة بعد الانتهاء من العمل في الفيلم، علماً أن أمه كانت ماتت فور انتهائه من تصوير فيلمه الأول «الضربات الأربعمئة» قبل ذلك بربع قرن بالتمام والكمال.
وربع القرن هذا هو، بالتحديد، عمر فرانسوا تروفو المهني. فمساره كمخرج، والذي ابتدأ في العام 1959 انتهى في العام 1984. لكن حب تروفو للسينما وذوبانه التام فيها كانا قد بدآ قبل ذلك بزمن طويل... بالتحديد، وكما يخبرنا في فيلمه الأول، منذ كان صبياً، يهرب من الصف ليتسلل إلى صالات السينما ويشاهد الأفلام، ومنذ كان، في غفلة عن حراس الصالات، يسرق صور الأفلام المعلقة على الجدران.
السينما والحياة
مع فرانسوا تروفو، يصح تماماً القول إن الحياة هي السينما والسينما هي الحياة، وعلى أية حال، كان هو، كما نعرف، صاحب القول الأشهر في حب السينما: «من يحب السينما يحب الحياة.. ومن يحب الحياة يحب السينما». ومن هنا لا يعود غريباً ذلك الاندماج بين السينما والحياة لدى هذا الفنان الكبير.
في الحياة إذن، ولد فرانسوا تروفو يوم 6 شباط (فبراير) 1932 لأمه جانين دي مونفران... التي كانت حملت به من دون زواج. وإذ تزوجها لاحقاً رولان تروفو، قبل هذا الرجل أن يمنح الطفل اسمه ورعايته... ولكن لشهور قليلة، بدا الطفل بعدها وكأنه عبء على الزوجين البائسين اللذين صار كل همهما التخلص منه أو الحد من نزعته التمردية حين شب عن الطوق. أما هو فسنعرف بعد عقود طويلة أن سؤالاً واحداً راح يقلقه: من هو أبوه؟
وفي السينما، ولد فرانسوا تروفو، بعد مخاض سنوات، في العام 1959، حين أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول «الضربات الأربعمئة» وعرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» لذلك العام، حيث نال جائزة الإخراج. والحقيقة أن الولادة كانت في ذلك اليوم مزدوجة: ولادة مخرج، وولادة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. وكان مخاض هذه الولادة الأخيرة قد دام نحو عقد من السنين. أي منذ تحلق تروفو وجان لوك غودار وأريك رومر وكلود شابرول وجاك ريفيت، من حول «أبيهم» جميعاً بالتبني أندريه بازان، ومن حول مجلة «كراسات السينما»، راغبين في تثوير الفن السابع عبر خلق نمط جديد من العلاقة مع الشاشة.
المهم هنا، هو أن العام 1959، كان مفصلياً في حياة تروفو، حيث من النقد والاهتمام الثقافي بالسينما، إلى الإخراج، خطوة خطاها، في نفس الوقت الذي قام فيه شابرول وغودار والآخرون بخطوات مماثلة. وكان السر أفلاماً من غير كلفة باهظة، لا نجوم كباراً فيها ولا ديكورات، أفلاماً تخرج السينما الفرنسية من بلادة وثرثرة كانت تعيش فيهما.
وهكذا، اذا كانت سيرة فرانسوا تروفو قبل 1959، تبدو متنوعة ومتموجة ومأساوية أحياناً، فإن سيرته بعد 1959، تبدو ممتزجة تماماً بأفلامه وهنا حتى «الأسرار» المتعلقة بحياة تروفو الشخصية خلال النصف الثاني من حياته وحتى مماته، إذا كان زمن قد مضى قبل الكشف بسبب تكتم تروفو، وظهوره الأنيق الدائم تحت سمات الرجل الذي لا مشاكل لديه، فمرة أخرى لابد من القول إن الإمعان في دراسة تفاصيل افلامه، سيقول لنا الكثير: سنجد الرجل غير المستقر، الذي يغير امرأته في شكل متواصل... وهو ربما صاحب كل ممثلة مثلت معه، من كلود جاد إلى كاترين دونوف، ومن فرانسواز دورلياك إلى جولي كريستي، وصولاً إلى فاني آردان آخر نسائه. وسنجد الإنسان القلق الباحث عن انتماء عائلي لا يجده أبداً. وسنجد الرجل الشهواني الذي يبحث في منتصف الليالي عن عاهرات يقضي معهن وقتاً.
في ثنايا أفلام تروفو سنجد كل شيء. لكننا سنجد أيضاً، وبخاصة، السينما. وإلى جانب السينما سنجد ذلك الولع بالأدب البوليسي، وبالعلاقات بين الناس... وبأمور عديدة هي التي شكلت العلامات الأساس في نحو دزينتين من أفلام حققها تروفو... وخاض عبرها، عدداً لا بأس به من الأنواع السينمائية.
والحقيقة أن في وسعنا أن نتبع هنا تقسيماً لسينما فرانسوا تروفو يأتي على الشكل التالي:
الأفلام التي تدنو من الذاتية عن طريق الأنا - الآخر: أنطوان دوانيل، وقام بالدور جان - بيار ليو كما أشرنا، منذ أول فيلم في هذه المجموعة («الضربات الأربعمئة» 1959)، وحتى الأخير «الحب الهارب» (1978) مروراً بـ «قبلات مسروقة» (1968 )، و «منزل زوجي» ( 1970 ). والحقيقة أن في إمكاننا أن نضيف إلى هذه الأفلام الأربعة فيلمين قصيرين لتروفو هما «البستون» (1957) و «أنطوان وكوليت» (1962). في «الضربات الأربعمئة» كان أنطوان دوانيل في الرابعة عشرة، مشرداً في الشوارع هائماً بحب السينما يتساءل حول العائلة والحرمان. أما في «قبلات مسروقة» فلدينا أنطوان وقد صار راشداً الآن يعيش ارتباكاً واضحاً أمام كل امرأة... لكنه لا يزال حالماً. من حول انطوان هذا، وضع تروفو في هذا الفيلم جملة من شخصيات غريبة وحنونة في فيلم مسلٍ لكنه عميق.
في «منزل زوجي» يحدث لأنطوان أن يصعد في السلم الاجتماعي فيتزوج. ولكن من دون أن يتخلى عن أحلامه وارتباكه وإخفاقاته. وإذا كان تروفو قد حقق هذا الفيلم استجابة لطلب هنري لانغلوا (رئيس السينماتيك الفرنسية) الذي حين شاهد «قبلات مسروقة» عبّر عن رغبته في أن يشاهد ثنائيّه يتحرك على الشاشة من جديد، فإنه - أي تروفو - عاد وحقق لاحقاً «الحب الهارب» ليصور أنطوان دوانيل في لحظة رسم جردة لحياته وقد أضحى الآن في الخامسة والثلاثين، متذكراً كل اللحظات الكبيرة والحاسمة في تلك الحياة، وقد عزم على أن يظل مراهقاً إلى الأبد.
بين الأدب والمسرح
بعد تلك المجموعة الأولى من أفلام تروفو تأتي مجموعة ثانية تتألف من فيلمين ويطلق عليها اسم «تروفو والطفولة». والحقيقة أن هذين الفيلمين لا يمكن أبداً فصلهما عن المجموعة الأولى، حتى وإن لم تكن لأي منهما علاقة مباشرة بسيرة تروفو الذاتية. فالفيلم الأول وعنوانه «الطفل الضاري» ، هو عمل بالأسود والأبيض حققه تروفو في العام 1969، انطلاقاً من حكاية حقيقية يرويها دكتور يدعى آيتار (يقوم تروفو بدور الدكتور في الفيلم) عن اكتشافه لطفل منعزل ضار، وتولّيه أنسنته وتربيته. والحقيقة أن هذا الفيلم إنما يكشف اهتمام تروفو الدائم ليس فقط بمسألة الطفولة، بل كذلك بمسألة العلاقة مع الأب. إذ، حتى لو كان هو الأب هنا، فإن الطفل أيضاً (بتمرده وعلاقته بالآخر: الدكتور) يبدو صورة مواربة لتروفو... في علاقته، مثلاً، مع أندريه بازان. أما الفيلم الثاني الذي يكمل هذه «المجموعة» فهو «مصروف الجيب» الذي حققه تروفو في العام 1976، من حول أستاذ وزوجته الحامل وعدد من تلامذته... حيث - بقدر كبير من الحنان والتعاطف - يصف لنا المخرج الحياة اليومية لأولئك الصغار الذين يعيشون على هامش حياة الكبار، في هواجسهم اليومية ومخاوفهم. هنا أيضاً، في هذا الفيلم، لم يفت النقاد أن يروا جزءاً من سيرة - ولو متخيلة - لفرانسوا تروفو. وكذلك فعل النقد بالنسبة إلى فيلم «آديل ه». الذي حققه تروفو لاحقًا عن سيرة ابنة فكتور هوغو.
فرانسوا تروفو، المولع بالسينما حتى الوله، وحتى الاندماج الخالص... والمولع كذلك، من خلال السينما بكل أنواع الفنون والأداب، كان لا بد له في أفلام أساسية حققها أن يغوص في الأدب وفي الفن... كما في السينما نفسها، معلناً أن ما من خلاص لكآبة الكون ورتابة الحياة إلا في الفنون وعبرها. ولعل في إمكاننا أن ننظر إلى واحد من أول وأجمل أفلامه وهو «فهرنهايت 451»، المأخوذ عن رواية للأميركي راي برادبري على أنه فعل إيمان حقيقي بالأدب وبالكتابة في شكل عام. هذا بالنسبة إلى الأدب والكتاب، أما بالنسبة إلى السينما، فإن تروفو هو الذي سيحقق في العام 1973، واحداً من أجمل الأفلام التي حققت عن السينما في تاريخها: «الليل الأميركي» الذي هو، من خلال لعبة الفيلم داخل الفيلم، ومن خلال تصوير تروفو لنفسه كمخرج يحقق فيلماً جديداً له، قدم تحية حب لهذا الفن الذي ما كان في وسع مخرج من طراز تروفو أن يفصله عن الحياة نفسها. ولم يكن صدفة أن يفوز هذا الفيلم، عام عرضه، بأوسكار أحسن فيلم أجنبي في هوليوود، مع أن لا حكاية فيه ولا خدع سينمائية، بل فن السينما في نقائه الخالص.
وإلى جانب الأدب والسينما، وإلى جانب حكاية الحب الرومانسية التي كانها واحد من أول وأجمل أفلامه، «جول وجيم» كان للمسرح كذلك نصيب من فن تروفو، وذلك عبر فيلم «المترو الأخير» وهو أحد من أجمل الأفلام التي حققها وأقواها. ولقد فاز «المترو الأخير» في العام 1980 بعشر جوائز سيزار متوجاً مسار تروفو وفنه، قبل أربع سنوات من رحيله. وهذا الفيلم الذي يلعب بطولته كاترين دونوف وجيرار ديبارديو، تدور أحداثه في باريس أيام احتلال النازيين الألمان لها، من حول ممثلة مسرح هرب زوجها من النازيين فتولت هي إدارة العمل مكانه، فيما اختبأ الزوج في قبو المسرح، يشهد حزيناً، غراماً يتقد بين زوجته وممثل المسرحية الرئيسي. هنا وبصرف النظر عن موضوع الفيلم و «رسالته» عرف تروفو كيف يعيّش متفرجيه وسط أجواء المسرح ويصوّر زمن الاحتلال الفرنسي تصويراً خلاقاً... ما جعل الفيلم فيلم أجواء ولا يزال يعتبر إلى اليوم واحداً من أجمل الأفلام الفرنسية التي حققت خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
في الأدب أيضاً، ولكن هذه المرة في الأدب البوليسي التشويقي الذي كان من الطبيعي لعاشق سينما هيتشكوك أن يشغف به أيضاً، حقّق فرانسوا تروفو خمسة أفلام - منها ثلاثة بوليسية خالصة، واثنان يقتربان، قليلاً أو كثيراً، من عالم السينما البوليسية، ومعظمها مقتبس من روايات أميركية الأصل.
إطلالة تروفو الأولى على فيلم التشويق كانت إذاً، مبكرة، أي في العام 1960، حين حقّق «أطلقوا النار على عازف البيانو» من بطولة شارل أزنافور... وهو فيلم تختلط فيه الجريمة بالفن بعالم الليل بالحب، من خلال حكاية عازف يعمل في بار ليلي ويعيش مكتئباً هناك منذ انتحار زوجته واكتشافه خيانتها له. وهناك في البار يلتقي نادلة تقرّر أن تخرجه من الحال التي هو فيها... لتعيده إلى فنه، لكن الثمن لن يكون زهيداً.
وفي العام 1968، اكتشف تروفو، ضمن قراءاته البوليسية كاتباً لم يكن معروفاً في ذلك الحين هو ويليام آيريش، وعلى الفور وقع في هوى أول رواية قرأها لآيريش ليحقق انطلاقاً منها فيلمه «العروس كانت ترتدي ثياب الحداد»، من بطولة جان مورو، عن عروس قتل زوجها يوم عرسهما، فتقرر - وتنفّذ - انتقامها العنيف والبطيء من كل أولئك الذين اكتشفت أنهم تآمروا على عريسها وخطّطوا لقتله وقتلوه.
يومها ما إن عرض هذا الفيلم وراح يحقق نجاحاً، حتى كان تروفو قد شرع في تحقيق تال له، عن رواية أخرى لويليام آيريش عنوانها هذه المرة «حورية الميسيسيبي»، وجعل البطولة لكاترين دونوف، في دور عروس آتية من أميركا ليقترن بها صناعي فرنسي ثري كان تعرّف بها عن طريق المراسلة.
أما آخر حبة في عنقود هذه المجموعة فهو الفيلم الأخير الذي حقّقه فرانسوا تروفو: «يا حبذا.. يوم الأحد» (1984) والذي عاد فيه إلى الأسود والأبيض وإلى بساطة الموضوع وكأنه يترك عبر فيلم تشويقي - كوميدي، وصيته السينمائية الأخيرة. هذا الفيلم اقتبسه تروفو، على عادته في أفلامه التشويقية، من رواية للكاتب تشازلز وليامز، لكنه حوّر كثيراً في المناخ العام ليربط الفيلم بما اعتاده من مناخات... ولقد نجح الفيلم ما كان يعد بانطلاقة جديدة لهذا الفنان، كان من أوائل مشاريعها فيلم «السارقة الصغيرة» الذي رحل من دون ان يبدأ في تصويره، فحقّقه كلود ميلر، الذي كان شاركه في كتابة السيناريو.