آكلو لحوم البشر يعيشون بيننا... فهل أنت منهم؟
صور من العالم
الأحد، ٥ فبراير ٢٠٢٣
عندما يذكر مصطلح آكلي لحوم البشر ينفر الإنسان العادي من الكلمة ولا يستطيع حتى تخيلها، فالأمر يعتبر مرفوضاً رفضاً قاطعاً وربما يعتقد بعض الناس بأن ذلك حدث في الأزمنة الغابرة من قبل الإنسان المتوحش والبدائي.
لكن هل ما زال هناك من يفترسون اللحم الآدمي؟ وهل هم قبائل أم أفراد؟ وما الدوافع التي تجعل الإنسان يقوم بهذا السلوك البدائي؟ وما علاقته بعلم النفس؟ وهل تعتبر أنت أحد هؤلاء الأشخاص بطريقة ما؟
قصة مفترس بشري
في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) 2003، تداولت قنوات فضائية عدة خبر المهندس الألماني الذي نشر قبل عام من ذلك عبر صفحته على الإنترنت منشوراً يسأل فيه إن كان هناك شخص يمكن أن يعرض جسده للأكل، وفعلاً لبى أحدهم الدعوة وزار المهندس في بيته، حيث وجده منهمكاً في إعداد وجبة بشرية لمدعو آخر.
التهم المهندس وضيفه الوجبة البشرية ثم التفت الأول إلى صيده الجديد وكاد كل شيء يمر بسلام، لولا أنه أعاد الكرّة على صفحات الإنترنت بحثاً عن ضحية تقبل عرض نفسها للافتراس، وفي هذه المرة تقدم له خمسة أشخاص، لكن الشرطة انتبهت إلى العملية وتمكنت من إيقافها قبل التنفيذ، كما اكتشفت آثار افتراس آدمي في بيت المهندس.
المشكلة التي اتضحت أثناء المحاكمة تمثلت في أن القانون الألماني لا يتوافر على نصوص تجرم "الافتراس الآدمي" أو أكل لحوم البشر، مما اضطر الادعاء العام إلى توجيه تهمة القتل للمهندس، لكن محامي الدفاع أصر على أن موكله لم يقتل ضحيته أو ضحاياه، مستدلاً بظروف القضية وحيثياتها التي تؤكد أنهم قدموا أنفسهم وعن طيب خاطر لموكله.
بعد جدل حكمت المحكمة في 29 ديسمبر (كانون الأول) 2003 على المفترس الألماني بـ15 سنة سجناً، بحسب ما جاء في كتاب "افتراس اللحوم الآدمية... زيارة إلى التاريخ المقارن" للباحث المغربي عبدالعزيز غوردو.
أكل لحم البشر تاريخياً
بحسب غوردو، فإن هذا هو أحدث ما جد في موضوع الافتراس الآدمي وربما لن يكون الأخير، كما أنه ليس الأول، فهذه الحال لا تشكل استثناء في تاريخ القضاء لأن أرشيفات المحاكم تغص بعشرات القضايا المماثلة وفيها نماذج كثيرة لا تتسع هذه المادة لعرضها.
من يتتبع رحلة ابن بطوطة سيتوقف عند محطات يتحدث فيها عن الافتراس الآدمي ومنها عندما وصف الغلاء الواقع بأرض الهند، حيث يقول "حدثني بعض طلبة خراسان أنهم دخلوا بلدة تسمى أكرورة ووجدوها خالية فقصدوا بعض المنازل ليبيتوا فيها ليجدوا بأحدها رجلاً أضرم ناراً وبيده ساق آدمية يشويها ويأكل منها".
كما ذكرهم أبو الفدا في القرن الـ13 الميلادي عندما وصف بحيرة كورة (بحيرة تشاد حالياً) التي تقطن حولها قبائل البيدي المشهورة بافتراس اللحوم الآدمية.
وفي دراسة جديدة قال علماء إن نقوشاً على عظمة بشرية عثر عليها في موقع أثري من عصر ما قبل التاريخ في كهف بجنوب إنجلترا تظهر أن أكلة لحوم البشر كانوا يأكلون فرائسهم ثم يجرون طقوساً لدفن بقاياهم.
وأوضح علماء من متحف التاريخ الطبيعي في بريطانيا فحصوا الرفات أنه "يبدو أن عظمة الساعد نزعت من مكانها ونزع اللحم عنها ومضغت قبل الحفر عليها بشكل متعرج وكسرها لاستخراج النخاع العظمي منها".
وتعزز النتائج التي نشرت في دورية "بلوس وان" الدراسات السابقة التي أجريت على عظام عثر عليها في الموقع الذي يسمى كهف جوف ويعتقد بأنه يرجع إلى العصر الحجري القديم في بريطانيا.
سلوك يخترق الثقافات
يستلهم فرويد أسطورة القتل الأولى (الوليمة الطوطمية) لاستكشاف المنشأ الأول للحضارة الإنسانية، وتفيد هذه الأسطورة بأن جماعة من البدائيين في الغاب الأول يحكمها أب ذكر قوي كان استحوذ على نساء القبيلة جميعهن وفرض نظاماً من التحريم الجنسي الصارم على أبنائه وأفراد العشيرة، وتحت تأثير القمع المستمر والكبت الشديد لدوافع الأبناء وميولهم الجنسية، غضب الأبناء وثاروا على أبيهم فقتلوه والتهموه، وعلى الأثر وقع الأبناء في صراع مميت على تركة الأب، فدبت الفوضى بينهم ونشب الصراع المميت، فاقتتل الأخوة وأهدرت دماؤهم في ظل غياب سلطة الأب وهيبته والنظام الذي وضعه.
الافتراس ثأراً تعبير عن غضب جماعي وفردي عبر إهانة العدو بتحويله إلى وجبة (مواقع التواصل)
يتناول فرويد هذه الأسطورة الولائمية بالدراسة والتحليل والتفكيك الرمزي لعناصرها على نحو سيكولوجي، لذلك فالافتراس الآدمي هو سلوك يخترق عدداً من الثقافات العالمية، متخذاً صوراً ومظاهر متباينة ما بين الفعلي والرمزي، فالفعلي هو من قام بعملية أكل لحوم البشر، أما الرمزي، فطقوس تشير إلى الجسد البشري بطريقة غير مباشرة عبر تراكم الثقافات.
فمثلاً كانت بعض الحضارات تأكل "آلهتها" كترميز لحال روحية عالية من الاتحاد معها، وفي عصرنا هذا تقوم المسيحية على رمزية الجسد والدماء عبر ما يعرف بـ"سر القربان المقدس"، إذ قدم السيد المسيح إلى حوارييه في الإنجيل قطعاً من الخبز وقال لهم "هذا جسدي"، ثم قدم لهم الخمر قائلاً "هذا دمي يراق لأجلكم".
وفي هذا الشق الرمزي يعتبر المضربون عن الطعام من المفترسيين الآدميين كما وصفهم غوردو، "إذ كيف يمكنهم أن يستمروا في الحياة على رغم إضرابهم عن الأكل؟ الجواب الضروري لذلك هو أنهم يأكلون ذواتهم بطريقة غير مرئية، فالصائم يأكل ذاته ويتغذى على لحمه الخاص".
لن تحب إلا مقاتلاً
أما الشق الفعلي، فربما تتحكم به اللذة أو الرغبة التي ترنو في كثير من الأحيان إلى حالات وغايات ترفضها القيم، لذلك هناك ما يؤطر هذه النزعة الداخلية الفطرية في كل إنسان ويحكمها بقواعد خارجة عنه، وعنها يقول نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، "مستهتر متهكم عنيف، هكذا تريد اللذة لواحدنا أن يكون. إنها امرأة، وهي لن تحب أبداً إلا مقاتلاً".
وظهر في التاريخ البشري أن أحد طرق الرغبة هي افتراس اللحم البشري، وهو ما ذكره الروائي المصري أحمد خالد توفيق في روايته "أسطورة آكل البشر" التي تتحدث عن عمليات قتل لأشخاص من قبل فرد مجهول يعتقد بأنه يأكل لحم البشر في الإسكندرية، ويتساءل عن طبيعة المتهم الذي بقي حياً فترة من الزمن بعد سقوط طائرته في مكان مجهول وظنوا أنه تغذى على لحم البشر، "هل استطاع التخلص من عادة أكل لحوم البشر التي حركت في داخله ذلك التراث البدائي الهائل الذي غطت عليه الحضارة؟".
ويتابع توفيق في مكان آخر على لسان شخصية طبيب في الرواية، "إن الكانيبالزم طبيعة في النفس البشرية وتذوق لحم البشر دمر قروناً من التراث الحضاري في نفس هذا الرجل، وهو الآن كالبدائيين لا يجد متعة ولا لذة في أي لحم ما لم يكن بشرياً".
أصل الـ"كانيبالزم"
و"كانيبالزم" ترجمتها أكل لحم الجنس ذاته وليس لحوم البشر فقط، وهي مشتقة من كلمة "كاريب" الإسبانية التي تصف قبائل "كاريب" الهندية التي تحدث عنها المستكشف كريستوفر كولومبوس، فكتب في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1492 عن هنود الأنتيل شيئاً اعتبره الباحثون من الخيال، إذ سجل في ورقته أن بعضهم له عين واحدة وآخر بملامح الكلاب وأنهم يذبحون الناس ويشربون دماءهم، وبعد ذلك في 26 نوفمبر سماهم "Caniba"، أي جنود الخان الأكبر الذين يثيرون الرعب في كل ناحية، وحددهم في هنود الأرواك (Arawaks) الذين أثاروا في مخيلته فكرة "Canis" أي الكلب في اللاتينية و"Cannibale" وتعني (الرجل المتوحش)، لكن معناها في الأنثروبولوجيا أكل اللحم البشري ولكن لهدف غير التغذية.
ويذكر أن الرحالة الإيطالي ماركو بولو أمراً شبيهاً بهذا في رحلته ولكن في المنطقة الممتدة من التبت إلى إندونيسيا.
دوافع أكل البشر
من بعض الدوافع التي أظهرت هذا السلوك عند الإنسان غير اللذة، حال الثأر المرتبطة بطريقة مباشرة مع اللذة التي تتولد لحظة الثأر والتي يختبئ تحتها ألم داخلي يعتصر صاحبه، لذلك فالثأر بالافتراس تعبير عن غضب جماعي وفردي بهدف تحقيق أكبر قدر من الإحراج للعدو بتحويله إلى حال اللحم.
في أميركا الشمالية هنود "ألغونكين" (Algonquins) و"هيرون" (Huerons) و"كري" (Iroquois) كلهم قبائل عرفت الافتراس الآدمي الخارجي (Exocannibalisme)، لكنها لا تأكل إلا الأعداء الذين يقتلون في ساحة المعركة، أما الأسرى، فيدمجون ضمن هذه القبائل.
وهناك سبب ثالث لأكل لحم البشر وهو الجوع، بخاصة في المجاعات الكبرى كالتي حصلت في سوريا ولبنان والجزيرة العربية على أثر دخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، وما عرف آنذاك بـ"سفر برلك"، حيث جمعت الخلافة في إسطنبول كل الطعام من هذه البلاد وكنزته لجيشها.
كما عرفت روسيا (الاتحاد السوفياتي) أثناء الحرب الأهلية، تحديداً بين 1919 و1921، مجاعة خطرة دفعت الناس إلى أكل كل ما يجدون، وعلى رغم أن البلاشفة رفضوا اللجوء إلى استدرار عطف الدول المجاورة (الرأسمالية)، فإن غوركي طلب بنفسه دعم المنظومات الدولية، معترفاً بأن السكان يأكلون جثث موتاهم، بل يقتتلون من أجل ذلك.
الالتهام الذاتي
توصل عالم الآثار جيمس كول من جامعة "برايتون" إلى أن "أكل لحوم البشر لم يكن الخيار الأكثر تغذية لإنسان ما قبل التاريخ، مما يثير احتمال أن تكون هذه الممارسة انتهازية في الغالب أو ترتبط بالصراع الإقليمي في المجتمعات البدائية".
وأشار إلى أن "كل حلقة من آكلي لحوم البشر في العصر الحجري القديم كان سيكون لها سياق ثقافي خاص بها وسبب لاستهلاك هذا اللحم".
هناك سبب ثالث لأكل لحم البشر بخلاف المتعة والثأر وهو الجوع (مواقع التواصل)
لكن بعيداً من هذا التاريخ الدموي، فإننا كأشخاص عاديين نمارس نوعاً من الـ"كانيباليزم" الذاتي حين نقضم أظافرنا ونبتلعها، أو حين نعض على شفاهنا أو نقشرها بأسناننا ونبتلع القشور، أو حين نأكل الزوائد الجلدية عند الأظافر، والجسم البشري نفسه يقوم دائماً بامتصاص الخلايا الميتة من اللسان والخد مما يعد أيضاً نوعاً من الـ"كانيباليزم" الذاتي.
وهناك أيضاً الذين مارسوا الـ"كانيباليزم" الذاتي على الرغم منهم كجزء من عمليات التعذيب أو أثناء الأسر في الحروب، ففي عام 1991 روى الناجون من التطاحن العرقي في جنوب السودان أن بعض الميليشيات كانت توقف الشبان والأطفال وتقطع آذانهم وتجبرهم على مضغها وابتلاعها لأنهم "لا يصغون إلى كلام أصحاب الحق، ولا يستمعون لأوامر الميليشيات".
ويبقى السؤال، هل يوجد اليوم من يعيش بيننا من آكلي لحوم البشر؟ والجواب، بحسب رواية غوردو، ومراجع متعددة أن هناك حالات شاذة من البشر تظهر بين الحين والآخر، أما عن وجود جماعة كاملة تأكل لحم البشر، فكانت آخر القبائل هي "الكوروي" في إندونيسيا، وبعد زيارة عدد من مدوني "يوتيوب" إليها تبين أنهم توقفوا عن هذه العادة.
آكلو البشر الحاليون
بالعودة إلى رواية "أسطورة آكل البشر" لأحمد خالد توفيق، فإن الكاتب أراد إيصال فكرة عميقة للقارئ، بحيث إن الشخص الذي شكك به في الرواية على أنه من آكلي لحوم البشر، تبين أنه مصاب بمرض "أديسون" الذي يشبه في أعراضه، بحسب الرواية، الصفات المنطبقة على المتهم المنطوي، لذلك أشار في نهاية روايته إلى أن "الناس لا يفهمون المنطوي أبداً، ربما يفهمون الوقح والمزعج، لكن المنطوي المهذب لا بد من أن يثير الظنون".
لذلك فما يعنيه هنا أن ألسنة الناس التي تحكم وتشك وتفكر بحسب الظاهر هي كآكلي لحوم البشر، وهذا ما أشار إليه يحيى بن موسى الزهراني أمام الجامع الكبير في تبوك، حين ذكر في كتاب تحت مسمى "آكلي لحوم البشر"، "إن بعض آفات اللسان آفة الغيبة، وهي من أكثر الذنوب انتشاراً، وأعظم الأمراض القلبية فتكاً، بل أصبحت عادة ذميمة وعملاً لئيماً وجريمة أخلاقية منكرة لا يلجأ إليها إلا الضعفاء والجبناء، ولا يستطيعها إلا الأراذل والتافهون، ولا تنتشر إلا حين يغيب الإيمان، وهي اعتداء صارخ على الأعراض وظلم فادح للأفراد، وإيذاء ترفضه العقول الحكيمة وتمجه الطباع السليمة وتأباه النفوس الكريمة، وهي كبيرة من كبائر الذنوب ومرض من أمراض القلوب، وقد جاء وصفها في القرآن الكريم بأبشع الصفات وأسوأ السجايا والطويات، قال تعالى ’ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه‘".