أمة الرسالة الخالدة
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ١٤ مارس ٢٠٢٣
تنادي بضرورة التجديد الفكري، الذي يهدف إلى تعزيز قدرات الإنسان وتحسين كفاءاته في مختلف مناشط الحياة، وأهمها الروحية والمادية على مختلف تنوعاتها.
وأهمية طرحنا لهذا الموضوع تكمن في العودة لفهم الفلسفة التي إن امتلكنا نواصيها ساعدتنا على بناء التفكير العلمي والأخذ به منهجاً للتطور الذي يؤدي إلى تطوير كلي في التخصصات، وتاريخ الفلسفة يعني ضرورة فهم الاختلاف، وكم نحن محتاجون إلى هذا الفهم الذي يؤدي إلى إظهار الجودة وإسقاط السيّئ.
أرجو أن تعذروني عندما أخوض غمار حديث كهذا، لأن مشكلتنا الرئيسة ظاهرة في نظم التعليم التائهة بين الروحي والعلمي البسيط والعامية المفرطة، التي تسيطر على الأجيال التي أخذت تتعلق بمفاهيم مخالفة للغة العروبة الأم، وأخذت تتوه بين اللغة الأم "الفصحى" ومفردات اللغات الأخرى، مظهرة لغة خليط تحمل مفردات يستوعبها الصغار، لكنها غير كاملة، ما يعمق المشكلة بدلاً من أن يحلها، لذلك عندما نحلل المشكلات القائمة نجد أنها أكبر من حلول الواقع، وأصغر من علوم الفلسفة، ما تسبب في استمرار تدهور الأمة التي استندت إلى منظومة الإسلام السياسي والفقهي، وتجسد ذلك في الأخوان السياسي والفكر الديني المتشدد، هذان العاملان قدما من الوراء، فعمّقا الأنا الفردية العربية، وفصلا الإنسان العربي، والمسلم منه بشكل خاص، عن باقي المجتمعات حيث صورا الآخر بالكافر أو الدون عنهم، وإرادته أن يقتدي العالم برمته بهم وبهما، حاربا العلمي العلماني، وصولاً إلى معتنقي الديانات السماوية والوضعية الأخرى، حتى من اختلف عنهما، وبهذا كمنت المشكلة الفكرية التي تعمل بشكل متضارب بين التقدم والتأخر، بين الماضي والحاضر، بين التوافق مع الآخر ورفضه.
كي لا ننجرف إلى ما تطرحه الليبرالية الجديدة، وكي لا نتعلق بالسائد من الليبرالية القديمة، وكي لا نتوه في حرب المصطلحات التي تستهدف الكثير من الرسالات الروحية وغيرها، ومن أجل أمة الرسالة الخالدة، أشتغل على هذا العنوان، لكيلا نبقى بلا إيمان، ولا أن نكون متفردين في الأحلام أقول: "لنؤمن بأنه حتى الذي لا يؤمن بالقدر يُخترع له قدر"، وهنا أعتبر أن المسألة جدّ خطيرة، لأنها تتصل بالفهم والتفكير من جهة، وبالقدرة على التواصل والتعبير وصناعة القدر من جهة أخرى، هذا الذي لم يحدث حتى هذه اللحظة، لأن الكثير من الأفكار الدينية انكشفت لدرجة كبيرة أمام الإبهار العلمي، كيف نتوئم بينهما، هاتان المرتبطتان بأن أي تقدم تكنولوجي ينتج عن نظم التعليم التي تدعو لتغيير السائد من خلال إعادة النظر في مدى صلاحية نظم التعليم الروحي والعلمي وتقييم منظومة معارف وعلوم تستخدمها الأجيال، كي تمكنهم من الاندماج في العصر الراهن، ما يأخذ بهم للتغلب على التحديات التي تنتظرهم وعلى الصعد العلمية والعملية والمعيشية كافة، ومن المهم أن ننشئ نقاشاً حول واقعنا، وأين نحن، ولماذا نحن هكذا؟ وأن يفسح له المجال وأن نتركه مفتوحاً شريطة أن يظهر منه خطوات عملية تؤسس لتقييم حالة الأجيال ومنظومة التعليم ومخرجاته والإنتاج وحضوره والثقافة ومآلاتها، كي يتم تجاوز الفجوات الكبيرة بين أنماط الحياة السائدة في مجتمعنا والمجتمعات المالكة للتقدم العلمي والتكنولوجي والانطلاق لتنظيم الأطر الاجتماعية التي تظهر من الأسرة، وصولاً إلى المجتمع، ومن خلالها يتم اختصار الوقت، ويؤسس لتأهيل الأجيال القادمة إلى الحياة الجديدة التي ترتبط بالتفكير والفهم من جهة، واستيعاب مخرجات الذكاء الاصطناعي الذي أخذ في غزو الفكر بتسارع من جهة أخرى.
أين نحن؟ نحن نحيا فوضى المعارف وبدائيات العلوم وجهل الأديان، إننا أمة الرسالة الخالدة، والكل يسأل لماذا؟ والكل ينبغي أن يعلم أنه لم يوجد في أي مرحلة من المراحل صراع حضارات ولا حتى صراعات أديان، وانتهت تلك الاستنادات التي اصطنعها أئمة وكهنة الطقوس للتفريق والسياسات الموتورة من أجل الاستمرار، وغدا سواد العالم يؤمن بعالم واحد وحضارة واحدة، يقودها العلم ووسائطه، والدليل هل يستطيع أي أحد التخلي عن الهاتف المحمول أو مخرجات أدوات التواصل الاجتماعي أو مدخلاتها؟ هل من فرد أو مجتمع أو دولة لا يتعامل بها؟ هذه التي جعلت العالم كله يقف أمام البحث عن التقدم والمسارعة لاستيعاب ما يجري، لذلك أجد أن ضرورة التجديد الفكري الذي يؤدي إلى جسر الفجوات المخادعة والمتحيزة التي تبعد الإنسان عن العقلانية والواقعية حتمية يجب الأخذ بها، وهذا النوع من التفكير الأناني يؤدي إلى التشدد الذي يقوّض العقل، وليس العاطفة، فالعاطفة تجعلنا إنسانيين، لكن التحيّز ومهما كان سببه هو الذي يبعدنا عن الموضوعية التي تدعو لاستخدام المعرفة وصولاً إلى الأهداف من دون إحداث هذا التجديد.
ستبقى الأمة واقفة حيث هي، لتكون في موقع النقصان، الذي يأخذ بها إلى البقاء في إطار الصور النمطية المنهكة لأي عملية تطور.
التجديد الفكري مطلوب، لأنه يحمل من عناصر القوة الاقتصادية والاجتماعية الكثير، وهذا مسؤولة عنه السياسات المتبعة في بناء محاور الدولة، وأهمها الاهتمام بالأجيال الصاعدة إلى الحياة، لأن فيهم تجد مفاتيح الازدهار الاقتصادي والتطور العلمي والاجتماعي، فالأفكار الجديدة تفيد المجتمع والدولة، والسماح بتوافرها يتم من خلال الأخذ بأيادي هذه الأجيال التي يستثمرها الماضويون من المتشددين الدينيين بين الفينة والأخرى، ومسؤولية حدوث ذلك تقع على خبراء الفكر الاجتماعي والفكر الاقتصادي وصانعي السياسات الإستراتيجية، الذين يدركون قدر الأفكار والمعارف التي تؤدي إلى الإبداع الذي فيه يكون التطور.
أمة الرسالة الخالدة تنادي بضرورة التجديد الفكري الذي يمنح للحياة قيماً تتجلى على ما سواها من مطامع ورغبات، آنيةً فرديةً كانت أم جماعيةً، وتنهي عمليات اختطاف الأوطان والإنسان إلى متاهات الانقسام والفتن التي تعزز باستمرار الإصرار على البقاء في الوراء، الذي فيه تستمر الدعوات، لأن يكون العالم على شاكلتنا، لا أن نكون مستفيدين من الإيجابي الذي يحدث فيه.
د. نبيل طعمة