احترام القدر
افتتاحية الأزمنة
الخميس، ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٢
الجميع يؤمن بوجوده بشكل أو بآخر، لأنه يؤكد احترام الإنسان لذاته ولمحيطه، والحكمة تعتبره ضرورة مهمة جداً ضمن المنطق الأخلاقي للحياة، وأن اختراقه لحياتنا حقيقة دامغة في كثير من المواقف التي ما إن يتفكر الإنسان فيه حتى يجده حاضراً بقوة في كثير من مفاصل مسيرته، ومتدخلاً في تحديد الكثير من مصائره، وصحيح أنه يسبب الحيرة في بعض من الأحيان، والبعض الآخر منه يأخذنا بعيداً عنه عندما نكون في حالة الرخاء والاستقرار المادي والنفسي وحتى المجتمعي، وأننا ننسب إليه ما نحن عليه مستثمرين فيه التغطية على ما وصلنا إليه أو جمعناه أو بنيناه بطرق ملتوية أو مستوية، ونلجأ إليه عندما نكون في فاقة، أو نعود إليه عند المرض، طالبين منه المغفرة والمساعدة والشفاء أو النجاة من المآزق.
هذا الذي نتوقف عنده لنسال عن تدخله لحظة قتل إنسان لإنسان عمداً، أو بقرار خاطئ عن العدالة، فالبشر مهما قويت بصيرتهم، فكثيراً ما تأخذ أحكامهم وتصرفاتهم بريئاً بوزر غيره، وتفلت مجرماً من أسار العقاب بين القدر والحياة، تتجلى أمائر الوحي اللا منظور، أو أتحدث بينهما عن الإلهام الذي يتجول بين الجميع، ليلتقط فكر أشخاص معينين، يختارهم لقيادة الكثرة أو الإبداع للجميع، وإذا اعتبرنا سواد البشرية عامة، نسأل كيف يتم الاستثناء؟ فنجد أنه بين الوحي والجنون، بين القدر والحياة، ومع المغالاة، بين هذين الطرفين يظهر الحل الملائم لشخوص تقود وتقدم وتمنح وتأخذ باحترام أبو بغيره، لكن من البداية إلى النهاية، وبينهما الحياة بكامل أشكالها، يتوقف المرء ليقول هذا قدري، صنع أو لم يصنع، وبنى أو لم يبنِ، فهو ركن من أركان النزعة العقلية، وقطب من أقطاب التفكير الإنساني على مرّ العصور، لكن وببداهة، إن عالمنا كثير الأعمال والشواغل، لا يلتفت إلى القدر، إلا إذا هاجمته الخطوب هجوماً عنيفاً، تتداعى أمامه استحكاماته وحواجزه، وتتساقط حوله خطوط دفاعاته، حينها يعود إليه، يبجله، يستحييه، ويطالبه بالاستجابة، بعد أن يقول له: أسألك العفو، وألتمس الشفاعة لهذه الزيارة الوجيزة والإلمامة بقدراتك، أرجو أن يتسع لها حلمك، وأعدك بقدر ما أستطيع ألا أعود إلى ذلك.
أضربه وأصيبه وأدعي أنه قدره ونصيبه، هل يصنع الإنسان قدره؟ أم إن قدره يتدخل في لحظة، إن كان صادقاً ليساعده في صناعته، فهل نستطيع أن نقرّ أن الإنسان يصنع جحيمه ونعيمه، بإدراك أو من دونه، أم إن الهالة الخفية وقواها اللا مرئية هي التي تقرر. أكتب كل هذا من أجل الدعوة المقدسة لفهم بناء الإنسان، هذه التي تلحّ لتقديم المعقول والمنطقي إلى جموع الجمهرة الفاقدة للمعرفة، هؤلاء الذين حُشيت أذهانهم بعادات وتقاليد واهية، ومناقشات وجدالات غير منتجة، فكان من الضروري توجيه سهام الفكر المذهبة إلى عقول الرياء والمخاتلة، وهنا أجد أن الذين يهتمون اهتماماً عميقاً بالقدر ومخرجاته هم الذين يؤكدون أحقية الإيمان به، وبالحياة والاشتغال لها، على العكس تماماً من أولئك الذين يهاجمون الأديان أو يتبعونها عاطفياً، فالإنسان لا يجوع، ولا يعطش من طلب التقى والصلاح، ذلك بأنه يبحث جاداً عن حياة رافهة، تسعده وتغذيه، وترسم له حضوراً اجتماعياً، وتخلف له ذكرى مرموقة.
القدر جوهر الروح والحقوق، لا تأخذ منه، بل من الإنسان الآخر، لأن الصراع ليس معه، وقضايا الموت والفقر والمرض والفوضى مسائل مازال البحث في أسبابها بطيئاً، ولذلك تعزى إليه، بينما هي في متناول العقل وقدراته، وهنا أقول: أجل، لقد أثارت الحياة كثيراً من المفاهيم، وعملت على خلق التناقض فيما بينها، والإنسان بطبيعته له صلة قوية بالحياة وبمجتمعه، والبحث دائم عن السعادة المرجوة، وهنا أقصد الحياة الصالحة الطامحة بالجد والعمل، الحاملة للسعادة الحقيقية التي لا تؤمن بالخمول والجهل والكسل، لأن من يتصور أن الحياة لا عناء فيها ولا جهد، وأنها أفراح من دون أحزان، لا يدرك قيمة القدر، فالقدر يطلب نماءً عقلياً واتساعاً لمباحث الفهم والعلم وتطبيقها على شؤون الحياة، فلا يمكن لكائن أن يصل بغير العلم والعمل والصبر والألم، وقربنا من القدر يمهد لسلام النفس، ولكن قلما يمهد لنا السبيل لإشباع جوعنا العقلي وشهواتنا ولجم غرائزنا، فمن يتكل عليه من دون بحث وعمل ينتهِ إلى لا شيء، والسماء تمطر، فإن استطعت تحويل مطرها إلى منتج يتصحح حينها القول: إن السماء لا تمطر ذهباً، إلى تمطر ذهباً، فهل نحترم القدر حقيقة أم إننا نستثمره للتعمية على اخطائنا وتلاعباتنا وإنجازاتنا الوهمية.
د. نبيل طعمة