استنزاف متبادل
افتتاحية الأزمنة
الثلاثاء، ٣ يناير ٢٠٢٣
أمدُه يحدِّد خسائره، الهجوم يحتاج إلى الدفاع، والاقتتال على طرفي الحدود يؤدي إلى المراوحة في المكان، ويراكم الخسائر بين الطرفين، لا واقعية في الحرب مهما كانت حجومها أو أشكالها؛ دينية، مذهبية، أيديولوجية، اقتصادية، عسكرية، جميعها يبدأ بتدخلات تؤدي إلى ظهور مشاهد من الرعب، وتحل الويلات لدى الجميع، وبالمقابل يتحدث الجميع، الكبار والوسط والصغار لا يريدون الحرب، إلا أنهم يفعلونها، طبيعة بشرية لم يقدروا على تغييرها.
قوافل من كل الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية واللا مادية، تذهب إلى غير رجعة من جرائها، ناهيكم عن استنزاف العقول واهتلاك الأجساد، وفي النتيجة انتهاء حياة سببها الصراع، الإرهاب والتشدد الديني والسياسي وحدهما يستنزفان العدالة، وأكثر من ذلك يحتكرانها.
مؤكد أننا جزء من هذا العالم، وواضح أن حجم تأثرنا بما يجري فيه أكبر بكثير مما نؤثر فيه، رغم أننا نتابع تقدمه، وندقق في علومه ومخترعاته، ونستخدم كل ما ينتجه من تكنولوجيا، ونستشهد كثيراً بما يطرحه من أفكار، إلا أننا متمترسون فوق جذورنا، لا نريد أن ننفصل عنها، ولو من باب رعايتها أو العناية بها. بينما الآخرون أخرجوها إلى النور، إن كانت لديهم جذور، أو أنهم صنّعوا جذوراً تتوافق مع تقدمهم، لذلك نشأت هوّات هائلة بيننا وبينهم، والإنسان المتطور يؤمن بأنه ابن ما وجد عليه في واقعه، الذي يعرّف عنه، حتى وإن أنكره.
المسألة هي في الكيفية التي يتعامل بها معه، وأيضاً بما يعتبر نفسه، أيكون مؤمناً أم متديناً؟ متزمتاً أم علمانياً؟ مجدداً أم محافظاً؟ يسارياً أم يمينياً؟ إلى ماذا ينتمي؟ إلى هوية الإنسانية الكبرى، أم إلى هوية جغرافية محددة بعنوان؟ أم عقيدة روحية أو أيديولوجية وضعية؟
الشعارات، الأحزاب، الأديان، السياسة، الكل يستنزف بعضه، روسيا والصين تستنزفان الغرب، الغرب يستنزفهما عبر أوكرانيا وتايوان، إن كل معضلة لا تجد لها حلاً تشكل عملية استنزاف، هذه التي تنشأ بين طرفين، تمتد لتستنزف كل الأطراف المحيطة.
تأملوا الواقع في أوروبا، في الشرق الأوسط، وفي جنوب شرق آسيا، وفي أمريكا "اللاتينية"، تخيلوا لو أنَّ بها "تِينْ".
إن كل هذه التخبطات الحاصلة في العالم جوهرها ومظهرها أنجزها الإنسان، الذي يستنزف بعضه، وتستنزفه دوله، فهو منتجها ومنفذها، وهو القادر بإرادة خلاقة على تفكيكها. هل المشكلة في المجتمعات؟ أم في أفكارها التي تمر مثل الرياح؟ فهي غير مرئية، ولكن يمكن رؤية آثارها البناءة أو الهدامة، وخاصة عندما تطل من خلالها تحديات مبرمجة أو غير متوقعة من داخل المكان أو من خارجه، ومعها تصبح الحاجة الطارئة للتغيير تحدياً كبيراً، فإما أن تترك العمليات للاستنزاف، وإما أن يتجه القادة لاتخاذ قرارات مصيرية، تأخذ بالمجتمعات والدول لإنهاء الابتزاز والاستنزاف، وتهتم بقضايا الطاقة وتمويل الإبداع والمشاريع الإنمائية والأمن الغذائي وتوجيه الشباب واستيعاب التغيرات المناخية، فإذا لم يحدث هذا فإن العالم متجه بالإرادة إلى تعزيز الفوضى، فالتكاثر الفوضوي وتضاؤل الإنتاج الغذائي وتمركز رأس المال في أيادي حفنة ضئيلة يؤدي إلى انتشار الفقر والبطالة والهجرات، هذا ما سينتج عالماً من الجريمة المنظمة أو الفوضوية والإرهاب.
السلام وحده يعيد للحياة رونقها وحضورها، وهذا لا يتحقق إلا إذا التأم قادة السياسة مع حكماء الأديان العالمية مع المفكرين العلمانيين، من أجل إحداث التفاهم على وضع إستراتيجيات لحياة الإنسان، وليخبروا الله بما أنجزوه بطرقهم الخاصة، ومؤكد أنه سيباركهم إن كان ذلك على الأرض أو في السماء.
لقد غدت الحياة ممتلئة بالعذابات والآلام، هل يدرك القادة ما وصلت إليه أحوال شعوبهم التي لا تتوانى عن أخبار الربّ، بأن رعاياه يتعذبون، وبأنهم لم يأخذوا وقتهم للاستمتاع، ولو بجزء يسير من الحياة، ورغم بحثهم عن المخلص الذي لم ولن يأتي، ومع ذلك ينتظرونه، ليبقى الحل بيد خلفائه من القادة السياسيين والدينيين على الأرض، الذين يعتبرونهم قدرهم واعتقادهم، بأنهم قادرون على إصلاح ما خرب، وإنعاش ما بقي لديهم جزء من حياة، وبهذا يتوقف النزف والاستنزاف.
د. نبيل طعمة